يدرك الجميع أن الحراك المتصاعد من اجل الحرية ومقاومة التسلط منذ الأشهر الأخيرة يقوده بامتياز من يسمون انفسهم بالعائلة الديمقراطية وبالإمكانيات البشرية والتنظيمية التي يمتلكونها في أحزابهم القائمة والجمعيات المدنية التي تنتمي اليهم فضلا عن المنظمة النقابية العمالية والصحفية ورابطة حقوق الإنسان وقد تصدروا هذا الحراك تحت اسم الشبكة ثم أحالوا التصدر الى شبيبة تشبك فيما بينها ضمن اطار العائلة الديمقراطية العلمانية بالأساس ولا دور البتة للإسلاميين أو جبهة الخلاص فيما تحقق من زخم شوارعي في الأشهر الأخيرة .
لا يستطيع احد أن يزعم أن الزخم البشري الذي اتسم به هذا الحراك والذي بلغ أوجه في مظاهرتي 22 و 29 نوفمبر يعود فيه الفضل الى مشاركة النهضاويين إذ من الواضح انه بعد استهداف حزب النهضة وشل قدراته التنظيمية وتوجيه رسائل التحذير عبر ايقافات الصف الأول انتهت إمكانيات الحزب في التحشيد وانصرف جمهوره الى شؤونه خوفا أو التزاما سياسيا بخيار الحركة لعدم التصدر وإدراكا لوضع الوهن الذي تعيشه بعد تجربة الحكم حتى في علاقة بقاعدتها الانتخابية وفهما لسياسة الدولة التي غيرت موقفها من النهضة لأسباب عديدة وفهما للتحولات العالمية الكبرى في المنطقة والتي تجبر الإسلاميين الآن على التفرغ لمراجعاتهم الفكرية والتنظيمية وتحيين مشاركتهم في الشأن العام بعيدا عن السقوف العالية التي فتحتها لهم موجة الربيع المتراجعة منذ سنوات والتي اغلق اخر أقواسها في 25 جويلية 2021 بتونس مهد هذا الربيع .
لماذا اذن يتم " اصطناع " هذا النقاش المفخخ الذي ينخرط فيه حتى بعض مدوني ونشطاء الصفوف القاعدية للإسلاميين التونسيين حول تموقعهم ودورهم الى درجة تحويل النقاش من إبراز تطور الحراك " الديمقراطي المعلمن " في مواجهة سلطة 25 الى مناقشة مكانة الإسلاميين فيه ؟
هذا الاصطناع وافتعال النقاش يأتي من داخل " التيار العلماني اليساري والتجمعي " المنقسم على نفسه بعد اشهر من 25 جويلية وخصوصا منذ قرابة السنتين بين اطراف بقيت في مساندة السلطة وأخرى نأت بنفسها عنها بل أن هذا الانقسام قد كان داخل تيارات وأحزاب خرجت منها شقوق مختلفة بسبب معركة الموقف من السلطة .
يدفع بعض اليسار والقوميين والنقابيين والتجمعيين المساندين للسلطة الى الإيحاء بأن تصاعد " الحراك المدني والديمقراطي العلماني " الذي يقوده رفاقهم السابقون في العائلة الديمقراطية المعارضة ليس من فعلكم يا رفاقنا القدامى بل بفضل خطيئة تحالفكم مع " الإخوان " الذين يحشدون لكم ويتم في هذا الاطار نشر بعض صور الرموز النهضاوية أو المحافظة التي تحضر بشكل رمزي لرفع بعض صور إخوانهم أو أقاربهم المعتقلين دون أن يكون تيارهم قد ساهم في تحشيد لم يعودوا قادرين على فعله أصلا ليقال انظروا انه حراك الخوانجية يقوده في الظاهر رفاقنا ...وهو ما دفع بعض اليسار والنقابيين والتجمعيين المتمترسين في صف معارضة السلطة أما الى نفي ذلك أو تبريره لتتحقق غاية انصار السلطة في " تثبيت " فكرة " مشاركة الإسلاميين" وتأكيد شبهة التواجد البشري المهم للإسلاميين في احتجاجات " العلمانيين " لوصمها .
وفي سياق متصل يدخل مدونون وكتاب وصانعو راي في الصف الإسلامي المحافظ في هذا النقاش : هل نتحالف أم لا نتحالف ؟ وكأن النهضة وحلفاءها فعلا قوة موجودة ومتماسكة وجاهزة وهي فقط تناقش المشاركة من عدمها مع العائلة الديمقراطية بينما النقاش الحقيقي اليوم هو كيفية استعادة الناس للطمأنينة بإجراءات انفراج يخرج فيه المعتقلون من سجونهم ومن المؤكد أن لا احد يملك القدرة على تصدر الدعوة الى هذا الانفراج إلا المنظمات المدنية والنقابيين والقوى العلمانية الديمقراطية المتعافية نسبيا من موجة التضييق والتي تملك قبولا من الدولة والمجتمع والعالم حين تتصدر مطالبات الانفراج السياسي .
إن استعادة الفزاعة النهضاوية ومنحها قوة مفترضة واصطناع خصوم الديمقراطية لهذه الفزاعة لوصم رفاقهم الأيديولوجيين السابقين الذين يتصدرون المطالبات والحراك الإصلاحي والتصدي للظلم هي مجرد فخ ذكي لترويج الوهم : من يعارض السلطة اليوم هم الإسلاميون بواجهة العائلة الديمقراطية .
كما أن انخراط بعض المتحمسين من التيار الإسلامي في هذا النقاش حول التموقعات ومكانة الإسلاميين في المعركة الديمقراطية وشوارع الاحتجاج هو تأكيد لكذبة الفزاعة ووقوع في الفخ .
معركة الديمقراطية وارتفاع نبرة الحراك يقودها اليوم ويؤثثها الديمقراطيون العلمانيون ونقاباتهم وجمعياتهم ومثقفوهم ولا حضور للإسلاميين فيها إلا بحضور رمزي وهذا امر جيد وفي خدمة استعادة الحرية خصوصا وان الدولة نفسها قد استعادت عافيتها فلا خوف عليها اذا قامت بخطوات انفراجية واطلقت سراح المعتقلين فلم يعد في مقدور طرف أن يتغول على طرف .