دول الصفر سعادة . عورات العقود الخاوية

عندما نمر صباحا بصفوف المواطنين الطويلة والتجمعات المزدحمة التي يأخذ فيها التونسيون والتونسيات اماكنهم فيها لساعات منذ الصباح الباكر امام الادارات والمصالح والمحطات للحصول على خدمات لا تتجاوز الدقائق ( مصحات الضمان الاجتماعي..السبيطارات والمستوصفات ..القباضة..البوصطة ..دار الماء..دار الضوء ..الكنام ..الكاس ..الميترو ..الكيران الخ ) ندرك بوضوح حجم مرارة الحياة اليومية في دول التخلف العربي الفقير (باستثناء امارات وممالك وسلطنات الريع النفطي المترفة ) .

ليست هذه المظاهر نتيجة عشرية الانقلاب التائهة ولا نتيجة عشرية الانتقال المريرة والصعبة . كل ما في الامر اننا نكتشف منذ اكثر من عقد ونصف الحصاد الرهيب لنظم البيروقراطية المتكلسة والتنمية الكسيحة والاستبداد الفرداني المتخلف للإدارة والقطاع العام المحلوب ريعا من اوليغارشيات الحكم لما سماه ياسين الحافظ منذ السبعينات في كتابه عن الهزيمة "دول ما دون الدولة" .

لم تكن المكاسب الاولى لدول الاستقلال العربي الا نتيجة لحماس السنوات الاولى للنخب الوطنية الشابة من جهة و للاستفادة من ضخ الرعاية والاعانة من معسكري الحرب الباردة التي رافقت النظم التابعة لها في المجال العربي لتضمن الهيمنة في فضاءات القسمة الجغراسياسية .

مع ثمانينات القرن الفارط بدأت اوراق التوت في التساقط على دول الاستبداد العربي الفقير لتظهر كما هي في حقيقتها : نظم " شيوعية" في بؤس قطاعها العام وخياراتها السياسية التسلطية و" مافياوية اقطاعوراسمالية بليدة" في خياراتها الاجتماعية ومناويلها التنموية واقتسام الريع وشعوب تكتشف شقاء حياتها في "مدن الملح" وأرياف الحرمان .

يتحدث بولينتزاس عن الدولة التي تخلق طبقتها عكس التنظير الكلاسيكي الماركسي الذي يتحدث عن الطبقة التي تخلق دولتها . دول الغنيمة والقبيلة كما فكك غرابة تشكلها المفكرون العرب من وضاح شرارة الى عابد الجابري و عبدالله العروي و غيرهم كثير هي النظم التي اصبحت لها طبقتها البيروقراطية .ليس لنا بورجوازية ولا بروليتاريا ..لا نبلاء ولا اقنان ...بل لنا " ادارة " و " مافيات" الدولة المسماة حاكما و "عالم الاعمال " .تلك هي القصة التي كان يجب ان تنتهي سريعا منذ اواسط التسعينات مع الانفجار العولمي وانتهاء هامش المناورة لهذه النظم اللقيطة بين معسكري الحرب الباردة .

حين انطلق مسار الثورات العربية كانت تلك هي الفرصة للعرب لاقتناص الموجة الرابعة للدمقرطة و التحديث المعاصر التي فاتتنا او منعنا منها حين حدثت الموجة الثالثة التي نقلت شرق اوروبا وجنوبها في الثمانينات من تخلف الاستبداد المفوت .

لم يكن الاسناد الغربي للانتقال الديمقراطي العربي لسواد عيوننا او خيرية المركز الغربي .كل ما في الامر رغبة في التخلص من عبء نظم استبدادية كسيحة مترهلة ستحول بفسادها و تسلطها العسكري او المدني هذه المنطقة الى بؤرة للإرهاب والفساد الذين ينغصان حياة و اقتصاد " الرجل الابيض" ( بعبارة هنتغتون) الذي يتجه الى تنافسية بينية تقوم على سباق الحوكمة والمواطنة والشفافية .

اصطدم الانتقال العربي الى عالم المعاصرة بعائقين هيكليين :

اولا:نخبة / طبقة سياسية جديدة لا تقل رثاثة عن طبقة الاستبداد : تيارات سياسية ماضوية مشدودة الى سرديات الحرب الباردة والايديولوجيات الميتة بمختلف مصادرها الوضعية اوالالاهية .ودولة عميقة بطبقتها البيروقراطية و الفكرية والاقتصادية المستعصية عن كل تغيير.

ثانيا : وضعية شعوب أمة غير متشكلة وموضوعة في ما قبل مرحلة التحرير الوطني يمثل فيها وجود " كيان غريب" عنصرا رئيسيا في تسقيف كل اشكال التحول الديمقراطي ويتم في اعاقته توظيف كل البلادات والحماقات المذهبية والايديولوجية لمنع الالتئام على المشترك المواطني .

هو مخاض المعاصرة ومعركتها مع " السلفيات " المتنوعة ...و في هذا المخاض تكون المعركة من أجل الديمقراطية والمواطنة هي اكثر معارك الشرف وبناء مستقبل شعوب لن يكون خلاصها الاقتصادي والاجتماعي والوطني الا بدول مواطنة ديمقراطية هي وحدها تصنع السعادة بعيدا عن زعيق الايديولوحيات الفاشية والشعبوية المفوتة .

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات