من المؤكد أن حالة الغضب والإحباط التي تعيشها الطبقة السياسية التونسية بمختلف أطيافها تجاه حالة الانغلاق تجعلها تستبشر بكل ما تراه مؤشر تغيير للستاتيكو ..
انتخاب عميد جديد ، معروف ب"صداقته لبعض المعارضين" ووقوفه "أحيانا" لنيابة "بعض" المعتقلين السياسيين، تم تلقيه بكثير من الاستبشار لدى المحامين المتسيسين وكثير من النشطاء السياسيين ..
لاشك أن كثيرا من متابعي المشهد السياسي التونسي سيتوقفون عند هذا الاستبشار ، الموزع بعدالة بين اهم التيارات السياسية المعارضة ، بما يؤكد الأزمة التي تعيشها السلطة مع مجتمعها السياسي والمدني بقطع النظر عن المزاج الشعبي العام تجاه السلطة ونسبة الثقة فيها فكل سلطة سياسية مهما ادعت الشرعية المؤسساتية أو ادعت " المقبولية الشعبية " تحتاج باستمرار الى إثبات مشروعيتها بعلاقتها الجيدة مع النخبة والطبقة السياسية في هذا الزمن العالمي الذي لا يقيم السلطة بمجرد تملكها للقوة العارية " .
يعبر رئيس الجمهورية منذ مدة في كثير من تدخلاته عن قلقه من " التقاء المتناقضين سياسيا " في معارضته ويلمح بتوجس الى " المهندس " الذي يجمع هؤلاء " المختلفين " في مضاددته مما يؤكد إحساس السلطة، بقدر مهم من القلق ، بالعزلة السياسية فضلا عن عدم ثقتها وقلة تقديرها للحزام السياسي او " الشعبوي " الموالي لها والذي لا ترى فيه قوة رمزية قادرة على توفير توازن أخلاقي مع المعارضات في معركة " المشروعية" السياسية والأخلاقية .
مما لا شك فيه أن سلطة 25 جويلية قد راهنت باستمرار على الترذيل الذي تعرضت له الأحزاب السياسية والمنظمات والمجتمع المدني ، كما اطمأنت للانقسامات الحادة التي تشق الساحة السياسية التقليدية والعزلة التي افترضت السلطة إنها قد أصبحت مفروضة بأحكام على الطبقة السياسية " المنبوذة " شعبيا والمطعون فيها " أخلاقيا " حسب تقديرات السلطة وهي تقديرات مقبولة ولكنها تحتاج الى كثير من التنسيب خصوصا بعد نسب المشاركة الشعبية المحدودة في كل المحطات الانتخابية التي نظمتها السلطة القائمة .
كان اعتماد هذا التقدير مشجعا للسلطة لتمعن في تجريف المشهد السياسي بالمحاصرة والإهمال والتهجم المستمر مع ثقة مبالغ فيها بأنها في طريق مفتوح لإنهاء كل أشكال الوجود السياسي التقليدي للأحزاب والمنظمات لكن ما تناسته هذه السلطة أن غياب الأداء والإنجاز من طرفها سيجعل اعتمادها المستمر على هذا التقدير غير مضمون في جدواه دائما .
يمكن للملاحظ الموضوعي أن يقف سريعا على توازن الفراغ الذي يحكم المشهد السياسي التونسي : فالإحساس بالقلق والعجز والغضب الذي يبدو في خطاب الطبقة السياسية من انغلاق الوضع واستهداف الحريات يقابله أيضا نفس الحجم من الإحساس بالقلق والعجز والغضب الذي يبدو في خطاب رئيس الدولة المالك لكل السلطات والذي لا يخفي إحباطه من عدم تحقق " ما يريد الشعب" بسبب لوبيات أو خصوم غير معلومين ما يعني أن الوضع لا يحيل الى انتصار حكم على معارضة بل يحيل على حالة " العطالة المخنقة " التي لا يبدو أن حدة خطاب السلطة وأنصارها كاف لتنفيسها أو لإقناع عموم الناس بأنهما عطالة واختناق مؤقتان سيزولان بمجرد لعن معارضات لا حول لها ولا قوة أو بمجرد التذكير بالسيرة السيئة لهذه المعارضة في عشرية السيلان الديمقراطي.
تتم الإشارة باستمرار من القوى السياسية الموالية للسلطة الى ضرورة تغيير أسلوب الحكم من الفردية الى الائتلاف بين قوى متعددة وتعرض اطراف الموالاة نفسها على الرئيس باستمرار واقترح بعضهم " الجبهة الوطنية التقدمية " التي تذكرنا باستعارتها حرفيا بالاسم والمضمون من تجمع أحزاب " فانطوش" صنعها حزبا البعث الحاكمان في دمشق وبغداد لتكون مجرد ديكور حول الحزب الحاكم فعليا او تذكرنا بالاتحاد الاشتراكي الذي شكله الحكم الناصري في القاهرة بديلا عن " الديمقراطية الفاسدة " التي رفض " مجلس الثورة " العودة اليها برفض العودة الى النظام الحزبي .
ورغم رثاثة هذا المقترح فهو اعتراف من الموالين انفسهم أنهم يرون السلطة التي يسندونها في حالة "عراء سياسي" لا يؤكد تعبيرها عن " إرادة كل الثوريين والوطنيين والصادقين " ولا يؤكد تمايزها عن الحكم الفردي التقليدي في العهدين البورقيبي والنوفمبري ما يجعل ولاءهم لها محرجا وبلا ثمن مجز .
يشير الجميع حكما وأطرافا سياسية ومدنية " محظورة " موضوعيا الى الوضع الدولي والإقليمي المتوتر واذا كان الحكم يعتبر هذا الوضع مبررا للانغلاق والانفراد بالسلطة لإغلاق الباب أمام " الخونة" والتدخل الأجنبي فان " المعارضة " ترى ان هذا الوضع يقتضي تمتين الجبهة الداخلية باستعادة المسار الديمقراطي والتشاركية السياسية ..
ولكن ورغم هذه الأزمة المستحكمة لا يبدو أن الحوار ممكن مع سلطة اختارت الصراع " الصفري " مع طبقتها السياسية …
ولهذا السبب بالذات تركن المعارضة الى بوارق " الأمل" النسبي التي تلمع أحيانا في القطاعات الوازنة مثل الساحة النقابية للشغالين والمحامين لعلها تكون مؤشرا على استعادة الحركة السياسية التونسية لدورها في اجتراح حلول لوضع مغلق .