من مصاعب الانتقال ايضا الارث الثقيل للدولة البوليسية

Photo

...لا يفهم المعنى العلمي و السياسي لهذا المفهوم الا من اشتغل في السياسة منذ عقود و شهد تحول دولة الاستقلال بشكل متدرج من دولة الحزب الواحد الى دولة بوليسية (حتى اسنانها) بكثير من الخصائص التي تحدثت عنها حنا ارنت في كتابها حول " الكليانية " (رغم اني انسب الامر باعتبار ان دولة بن علي كانت " تسلطية " و لم تستطع التحول الى الشمولية الفاشية التي تتصف اساسا ب" تعميم الرعب " ).

الدولة البورقيبية كانت " سياسية حزبية " تحكم وتتسلط ب" السياسيين " و الشعب و الخلايا الدستورية و تفاوض خصومها بالسياسة و تواجههم في اقصى حالات العنف بالميليشيات الحزبية. في عهد بورقيبة كانت الشعبة و لجنة التنسيق و مقر الحزب هي مراكز " السياسة " .

النقلة مع بن علي كانت بتحويل الدولة الى جهاز بوليسي بالأساس على غرار الانظمة البوليسية في امريكا اللاتينية في السبعينات والانظمة المخابراتية في اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي وعلى غرار الانظمة القومية العربية العسكرية حيث تصبح المجتمع كله تحت نظر " الامن " لا السياسة.

في الدولة البوليسية تصبح السياسة " ملفا امنيا " لذلك كان الامن هو الذي يفاوض السياسيين في الازمات التي شهدتها تونس بين بن علي والمعارضة. فرج قدورة وغيره كان من اهم المفاوضين المعروفين في الساحة السياسية. الامن السياسي المرابط يوميا في محيط مقرات البي دي بي والتكتل والتجديد والرابطة والبطحاء والمقاهي والحانات السياسية التي كنا نتحرك فيها كان هو الوسيط في الرسائل والتسويات.

استعمل بن علي في تفكيك حركة النهضة اوائل التسعينات اقصى درجات الاستعراض الامني المبالغ فيه (ايقاف قيادي اعزل في بيته فجرا كان يتم بإيقاظ كل الجيران وبنباح الكلاب وصعود الامنيين على الاسطح المجاورة). كان الامر تمرينا نفسيا للشعب التونسي على مقتضيات الدولة البوليسية التي يصبح فيها كل شيء من اختصاص البوليس من وضعية انسياب السلع في الاسواق ومشاكل الاحياء والحارات وخصومات الاداريين والانتدابيات في الوظيفة وصولا الى الانتخابات والعمل السياسي.

حشود الثورة ذهبت اولا الى مقر وزارة الداخلية (مهاجمة مقر التجمع كان بعد ثلاثة ايام من هروب بن علي) لأنها كانت تدرك ان " النظام " هناك. بعد يوم واحد خرجت مظاهرات الامنيين تعلن: ابرياء ابرياء من دماء الشهداء ...كانت المؤسسة الامنية تدرك تماما ان النظام الذي يتهاوى هو نظامها الذي تتحمل كل سوءاته بما فيها المحاصرة والمضايقة والتسلط الذي عانت منه باقي اجهزة الدولة من تجمع دستوري ومؤسسة عسكرية ونقابات وادارة. كان " البوليس " مرتجا من هروب راس نظامه الذي ورطه وترك كل الارث على كتفيه.

غياب التصميم الواضح في مرحلة حكومتي الغنوشي ثم الباجي على اصلاح جوهري للنظام عبر اصلاح عموده الاساسي (المؤسسة الامنية) سوف يؤدي الى العودة التدريجية للحنين نحو استعادة البوليس ادارة الحياة السياسية. كان عمل الصديق لزهر العكرمي خطيرا ومناقضا لحركة التاريخ في التعاطي مع وضع المؤسسة الامنية اهم ميراث مرهق من نظام بن علي.

في فترة الترويكا سوف يصبح الصراخ المسرحي والسينمائي الذي استعملته " الاجهزة القديمة " في التحذير من " الاختراق " والامن الموازي وبناء " بوليسية النهضة " وغيرها من الشعارات الكاذبة (لا أحد يقدر على اختراق الدولة العميقة …هذا كلام فارغ) …كان هذا الصراخ خير حاجز امام اصلاح حقيقي للمؤسسة الامنية لتتحول من امن نظام الى امن جمهوري.

الارهاب وتداعياته سوف يكون بدوره فرصة لإيقاف اي حديث على اصلاح جدي للمؤسسة الامنية التي اصبحت من بين المقدسات التي لا تستطيع ان تنقدها نقدا ناعما قبل ان تبدأ بالبسملة التقليدية: رغم احترامنا للمؤسسة الامنية ودورها وو …وغير ذلك من الكلام الخشبي الذي لا تستفيد منه البلاد و لا المؤسسة الامنية.

التركيبة النفسية للامني الذي كان يمسك بيده كل ملفات البلاد التي يحكمها من قرطاج " الضابط / البوليس " الكبير يصعب ان تستوعب هذا التحول بعد الثورة التي أصبح فيها الحكم فعلا للشعب الذي تجاوز الخوف والرعب وأدرك جيدا حقوقه. اعترافنا بان المؤسسة الامنية تقطع اشواطا مهمة نحو استيعاب حدث الثورة لا يمنع وجود رغبة او امنية دفينة داخل عدد من عناصرها بإمكانية " احتياج" الشعب ذات يوم لإعادة طلب دولة " البوليس " . ما يصدر عن بعض الامنيين احيانا من تصرفات تشي بكره الثورة والمواطن الحر هو امر طبيعي بعد سنوات قليلة من بداية نهاية الدولة البوليسية.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات