هل من الوجاهة أن نخشى القضاء؟

أنا عشت فترة في تاريخ انهيار القضاء التونسي منذ 1991 كان فيها القاضي ينظف أنفه وينظر إلى مكان ما في الجدار فيما المتهم يقتل نفسه للحديث عن التعذيب الوحشي الذي تعرض له ثم يتعمد الانشغال مع زميله فيما المحامي يقتل نفسه في بيان بطلان الإجراءات والتهم، إي؟ الحكم حاضر أيا كان الأمر والتصريح بعد الجلسة لتفادي الإحراج، حضرت عدة قضايا كانت تتطوع فيها المحامية الشجاعة راضية النصراوي وعشرات من المحامين الشرفاء فخر القضاء التونسي وأثبتت أن "المتهم" الذي هو أصلا بريء قد تمت محاكمته مرتين من أجل نفس التهم التي لا وجود لها واقعا وقانونا: عامان سجنا في شيء لا يستحق، رغم أنه لم يحدث، أكثر من 100 دينار خطية،

لست بحاجة إلى التذكير بعشرات القضاة الشرفاء الذين دفعوا غاليا ثمن استقلالهم وأعتقد بحكم مرور الزمن أنهم كانوا أغلبية، لكن تم إبعادهم عن القضايا التي تهم الرأي العام، أنا أعتبر الموقف الأكثر سموا في تاريخ القضاء التونسي هو عندما حاصر عشرات أعوان الشرطة المدججين بأقوى وسائل وزارة الداخلية محكمة بن عروس لإجبار قاض على الإفراج عن زميل لهم كان اعتدى على محامية، كنت مستعدا لإضافة ما بقي من حياتي البسيطة لأولئك القضاة الشرفاء إلى أن انهاروا لأنهم وصلوا إلى نهاية الحائط ولم يعد لهم ناصر ولا رجال، ونجح البوليسية وفازت عقلية "الحاكم" على ثقافة القضاء،

بعد 1991، أصبح أولئك القضاة أشد شراسة يسخرون من المتهم وهو يكشف عن آثار التعذيب الشنيع، "يكذبوا عليك البوليسية؟" لا حاشا وكلا، ثم أصبح أولئك القضاة يقاطعون المحامين: "يزي أستاذ من الخطابة، أوجز أستاذ، راك خرجت على ملف القضية، أستاذ كان تعاود اتهام البوليسية نحيلك فورا إلى النيابة؟ طلباتك أستاذ؟"، محاكمة من خمس دقائق بعد أربعة أشهر إيقاف وتعذيب لم يكن في ملفات الكثير منها سوى محضر سماع واحد: "ضربوه وإلي عنده قاله" فهم لا يحتاجون إلى أي مؤيدات خارجية للإدانة، تتدمر حياة عشرات المواطنين الأبرياء بوشاية مغرضة،

"ماشين بعيد لواه؟"، أنا كنت في سنة الباكالوريا لما وقفت أمام قاضي التحقيق الساعة الخامسة من يوم الجمعة 17 جانفي 1986 بعد أربعة أيام من التعذيب عند شرطة تاجروين حيث كنت منفيا فاعترفت لهم بأني أنا الذي أضرم النار في مبيت المعهد بعد سلسلة أيام مظاهرات ومواجهات يومية مع الشرطة،

لم يفك البوليسية قيدي إلا في مكتب القاضي رغم عجزي عن المشي السليم فما بالك بالهرب فسارعت كما خططت في ذهني إلى أن أريه آثار الدماء على ساقي، أتذكره جيدا: أبيض قصير القامة عليه آثار النعمة المفرطة، استقذرني وبدا عليه الانزعاج الشديد من رائحتي ومن نزع حذائي الذي كان بلا خيطين، "لم عليّ خماجك، يكذبوا عليك البوليسية؟" ولأن اليوم انقضى، فقد أمر بأن أبقى بحالة إيقاف في مركز بن عنين إلى الغد حيث حذرني كاتبه: "أخطاك من حكايات ضربوني وبريء، تنحي صباطك وإلا سروالك كيف كيف، خفف على روحك بالاعتراف وأكه هو"، إنما كان قاضي الدائرة الحكمية أكثر قسوة منه في جلسة لم تدم سوى بضعة دقائق، كان فيها الأستاذ المناضل نجيب الحسني محامي رفيقي في القضية فعاد به حرا وكان محاميّ الأستاذ الشهير المليونير البشير بالأخضر الذي رهنت أمي كل مصوغها ولم تستعده أبدا للفوز بحمايته لكني لم أره إلا لحظة المحاكمة لثوان وهو يلبس على عجل رداء المحاماة لكي يطلب لي في ثلاث جمل غير مفيدة العفو والرحمة لولد لم يهتم حتى بالنظر إلى وجهه فما بالك بلقائه في السجن كما يفعل مناضلو الدفاع والقضايا الإنسانية، أدركت أنه لم يقرأ حتى ملف القضية وأنه جاء على عجل لأنه كاتبته أعلمته في اللحظات الأخيرة أن "عنده طفل في الحبس جلسته اليوم" في قضية مظاهرات؟ عندما كبرت ذهبت إليه في مكتبه، فقط لكي "تجي عيني في عينيه" ولكي أقول له إني لا أسامح ولا أغفر، قلبي ليس بحرا ولا مصب فضلات،

عندما كبرت عرفت أن قاضي التحقيق كما قاضي الجلسة مطالب بالبحث عن الحقيقة، أي احتمال براءة المتهم قبل احتمال إدانته وأن قضاة آخرين هم الذين سيقضون وليس هو ولا البوليسية، إنما كم نحن بعيدون عن ذلك؟

ذلك القاضي، الذي ما زلت أصب اللعنات عليه وعلى روحه بعد أن مات ولن أغفر له ولا لأي أحد وقف في طريق محنتي، أخرج حكة النفة من جيبه، دق ضربة هي بيدها وقرأ عليّ على عجل قرار المحكمة والسجن بخمس سنوات من أجل إضرام النار في محل مسكون وستة أشهر من أجل الإضرار بملك الدولة، في وقائع حرق قظع من جراية موس في مدرج مبيت معهد تاجروين ليلة 13 جانفي 1986، أنا أصلا لم أحرقها فقط كانت عندي "الوقيدة" التي طلبوها مني، الذي فعل ذلك تلميذ كان في السنة السادسة ثانوي ثم فشل في امتحان الباكالوريا فذهب إلى العراق للدراسة ثم انظم إلى مجموعة مسلحة وانتهى بأن فجر نفسه في قافلة عسكرية أمريكية مخلفا تسعة قتلى.

لا أحد في هذا الوطن الكئيب يقدّر حجم المرارة التي يحسها الإنسان المظلوم أمام القضاء والآلة الجبارة التي تسحق الإنسان حين يقف أمام قاض "ينظف أنفه" بإصبعه ثم يمضي على قرار إيقاف ظالم أو إدانة مفتعلة ثم يعود إلى بيته ويبوس أبناءه وزوجته ويطلب رضاء والديه لأن في ذلك رضى الله؟ المظلومون يعرفون الله حقا في ليالي الأرق التي لا تنتهي في السجون وفي الأعياد عندما ترق الأرواح ولا يستطيعون حتى احتضان أبناءهم أو أمهاتهم، لا شيء يمكن أن يستقيم مع الإحساس بالظلم في هذه الأوطان التي ترسل الناس إلى السجون لأشهر في ظروف غير إنسانية، تحت شعار "كان ما عمل شيء توه يروح"، ثلاثة أشهر؟ ستة؟ عام؟ عام ونصف؟ ممكن، توه تروح،

هل من حقنا أن نخشى على أنفسنا من القضاء؟ نعم،

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات