لماذا توقفنا عن إنتاج النكتة السياسية؟

قالك واحد طلع في الكار من دشرة نبر إلى مدينة الكاف (32 كم)، عاد بدا يفدلك مع قصاص التساكر، أنت ماشي للكاف لواش؟ قاله: سمعت يبيعوا في زيت الحاكم، كملوا الحديث منا ومنا، حتى وصلوا إلى البياض في مدخل مدينة الكاف، (2 كم عن المدينة)، قال له اهبط هنا، قال الرجل: لا عاد ما زالت بعيدة؟ قال قصاص التساكر: مش أنت تحب تشري الزيت؟ قال: إي، قال له: اهبط هنا، الصف يبدا من البياض،

قالك رئيس الجزائر جاء في زيارة إلى تونس، فخرج يتمشى مع الرئيس التونسي حتى وجدا ازدحاما كبيرا وصف طويلا، سأله عن سببه، فقال له: هذا بسبب عزاء في ميت معروف، عاد رئيس الجزائر سأل واحدا من المتزاحمين: "عزيت؟" يعني هل قدمت العزاء؟ قال له: لا على السميد،

هذه مقدمة لتونسة بعض النكت السياسية القديمة في مصر زمن الانفتاح وسحق الطبقات الفقيرة والفشل الحكومي في إدارة الشأن العام، ويمكن القول إن النكتة السياسية السوداء تكاد تكون اختصاصا عربيا بعد الاتحاد السوفياتي، فقد بدأها السومريون في العراق منذ 45 قرنا قبل الميلاد للسخرية من حكامهم الخائبين، ثم ابتلي العرب في العصر الحديث بالرؤساء الملوك الذين بدأوها كلهم بشعارات ثورية وحروب لا صوت يعلو فيها على صوت المعركة، وانتهوا بتحويل السلطة إلى غنيمة عائلية ملكية ودول تقوم على الولاء وتقارير المخابرات التي تحصي أنفاس الناس وتداهم بيوتهم من السطح في الفجر والحرس الجمهوري والرئاسي،

المهم، الشعوب العربية طورت النكتة السياسية السوداء لمعالجة الكآبة والإحباط في علاقة بالحكم العضوض الذي يقوم على الولاء بدل الكفاءة، وكان جمال عبد الناصر أكثر الرؤساء عرضة للنكتة الساخرة، ومما يروى عنه أن علماء احتاروا في تحديد هوية تمثال عثروا عليه، اقترح جمال عبد الناصر إرساله إلى صلاح نصر سيد المخابرات الرهيب وشمس بدران وجماعته، وبعد ساعات كتبوا له: "لقد تأكدنا أنه رمسيس الثاني"، قال لهم: كيف عرفتم؟ قالوا: لقد اعترف خلاص يا فندم"،

ومثل هذه النكات يمكن أن تغيظ بها أي قومي في تونس ذلك أن السخرية الجماهيرية طالت كل الحكام الذين انتسبوا إلى القومية والقضية وما إلى ذلك من جمال عبد الناصر الذي وصفته نكتة مصرية بأنه جاء بدين جديد لأنه كفر الجميع ووضعهم كلهم في السجن من التيارات اليسارية إلى السلفيين مرورا بالإخوان الذين كانوا أنصاره وصولا إلى القوميين أنفسهم ومنهم محمود السعدني الذي اتهمته المخابرات بتأليف النكت عن جمال عبد الناصر مع عبد الرحمان الخميسي بعلم كامل الشناوي وبيعها إلى المونولوجيست في مصر لكي يعتاش بعد أن حاصرت الدولة رزقه،

وليس نكتة أن جمال عبد الناصر أمر بنقل الخميسي ومن معه من جريدة الجمهورية الحكومية إلى شركة باطا للأحذية بتهمة العداء للثورة، أكثر التهم انتشارا في العالم العربي، فقال له كامل الشناوي مازحا: "ماتزعلش ياخميسي.. مكسيم جوركي بدأ حياته جزمجي وانتهى كاتب عظيم، وانت بدأت حياتك كاتب وانتهيت "جزمجي"!

النكت الأكثر شناعة كانت عن حافظ الأسد ثم يليه الرئيس الليبي معمر القذافي الذي تنسب له مئات النكت الارتجالية منها أنه قال: "لولا الكهرباء لجلسنا نشاهد التلفزيون في الظلام"، ولا تنسوا أن أغلب هذه النكت إن لم نقل كلها، لم يقلها صاحبها لأنها ليست سوى اختراعا شعبيا لمعالجة الاكتئاب الجماعي والإحباط في العلاقة بالسلطة والعدالة وإدارة الدولة، السادات أيضا كان هدفا للنكتة السياسية السوداء، فمما روي عنه أنه استدعى الكاتب محمود السعدني وسأله غاضبا: "كيف تؤلف النكت ضدي يا ولد يا سعدني وأنا رئيس مصر، اختاره الشعب عبر الاستفتاء العام أمام سمع وبصر العالم بنسبة 90.04%؟ قال السعدني: والله ياريس النكتة دي مش من تأليفي!"، وهو جواب ينطبق على كل رئيس عربي مدى الحياة ينتخبه الموتى والغائبون،

وهنا نأتي إلى زعيمنا التاريخي الحبيب بورقيبة الذي ألفنا حوله الكثير من النكت خصوصا حول توجيهات السيد الرئيس، الركن الإجباري اليومي في التلفزيون الوحيد "متاعه" الذي تحول إلى مرج يومي للقلب والمزاج، عاد قالك شخصان يتحدثان في المقهى عن سخافة وبذاءة توجيهات الرئيس، وفيما هما يتناقشان غمزهما نادل المقهى إلى قواد "حنش" في الطاولة المجاورة، عاد الأول قال للثاني: "المشكل أنها هي تحلى بالضبط، وهوما يقصوا عليها"، الكلام طبعا عن توجيهات الرئيس، وقد قيلت نكت كثيرة عن بورقيبة، مشكلها الوحيد أنها تدخل في القباحة التونسية المتفشية ولا يمكن نشرها،

لكن المتابعين يستطيعون أن يتذكروا مثلا تقليدا لخطاب بورقيبة عن: "طلبتوا الماء، دخلناه لكم، جعبة جعبة..."، وقد كانت هذه الخطب "التحصل معناها" من أكثر المواد التلفزية بذاءة وتفاهة وسخافة، خصوصا حين تتكرر كل يوم، وقد كرهتها أكثر لما علمت أنه سجلها في معهد الصحافة، وفي بعضها يتحدث كيف يشكو من مشاكل جنسية لفقدان احدى خصيتيه، ولم تكن عموما سوى هذيان سلطة متأخرة.

أما زين العابدين بن علي، فقد كان مثالا للنكتة عن الحاكم العربي العسكري الغبي، ومما قيل عنه أنه في زيارة سرية له، رأى رجلا يجلس وحده ويشرب الكحول، جلس قربه وتودد إليه، تره هات اش تشرب؟ مد له كأسا فشربه، بعد شوية قال له: هل تعرف من أنا؟ قاله الرجل: من غير محقرانية، لا، وناوله كأسا ثانية، قال له أنا نخدم في الحاكم، الكأس الثانية قال له: أنا راني واصل في الحاكم، بعد الكأس الثالثة قال له: الحقيقة لم أقل لك إني مني للرئيس، عاد الراجل متعود بشرب الكحول وبمثل هذه الاعترافات الدرامية، قال له: أيا فز من هنا، الكأس الجاية تقول لي إنك بن علي، وهو ما يختزل الصورة الخرافية عن الجنرال بن علي الذي كان مغرما بالتنكر والزيارات الفجئية وتحويلها إلى مسرح،

ومنذ وقت غير بعيد، حضرت مجلسا أراد فيه أحد الحاضرين المعروفين بالبداهة أن يطلق نكاتا ساخرة للضحك من الوضع ومن السياسيين، قال له أحدهم: "بجاه ربي ضم فمك علينا"، كان الإحباط أكبر من الضحك نفسه وكأن العرب فقدوا قدرتهم على السخرية من وضعهم السيئ، قال لي أحد الحاضرين: "الحل الوحيد الحرقة، لا نكتة ولا كتيبة في فايسبوك"، مقابل ذلك، أخذت أغاني الراب وخصوصا الأندرغراوند المشعل عن النكتة في النقد السري الساخر من الحاكم، لكنها بلا نكتة ولا إبداع، مجرد إيقاع وكلمات ذرّي، تختزل السطحية ورد الفعل الغاضب دون أية مفاجأة أو قيم فنية أو طرافة، لماذا توقف العرب عن إنتاج النكتة السياسية؟ كيف سنعالج كل هذا الإحباط؟

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات