عن صابة القمح والعولة والغولة وأساطير أخرى…

Photo

وأنا أرى خيبة صغار الفلاحين في تسليم القمح إلى الدوك أتخيل كلفة النقل ومهانة الانتظار، أتذكر في مثل هذا الوقت من صباي في سنوات السبعين، متعة تجمع الخالات أو العمات كل مرة في بيت إحداهن من أجل العولة: كسكسي شمسي ومحمصة من القمح الصلب التاريخي متاع دير الكاف لكل العام، زوج الخالة الذي هو عادة ابن خال أو عم، اشترى الشاي والتمر والحلوى (الدلاع من السانية )وبطريات للماكينة tourne disque schneider مع صحون الموسيقى السحرية التي تبدأ بـ: "اسطوانات صار تقدم: الشيخة بقار حدة وقصاصبيها إبراهيم بن دباش: قالت آ يا يا يا ويضرب فيّ، آو يضرب فيّ من غير سبايب، نا صغيرة وقلبي طايب"،

وتحتج إحدى صبايا العائلة: "مش قلتوا باش تجيبوا صحن زيلخة صب الرشراش؟" أما أنا، فقد كانت النسوة يتخلصن مني بإيهامي بحراسة الكسكسي الشمسي وهو يجف في غرغور مثل هذه القايلة حين يقف إبليس على ذيله لتفادي احتراق قدميه، لكني كنت أنتقم بأكل ما أمكن من الكسكسي النيّئ سرا حتى توجعني بطني، لا تسألوني لماذا، أيضا كنت أتدرب على الرماية بكل سعادة في الدجاجات اللاتي يقتربن من الكسكسي،

إنما قبل ذلك يتفقد أهلي مطامير القمح والشعير والهرين وهو ركن كبير من بيت المونة والمعدات حيث، أيضا تسكن الغولة التي تطلبها لنا الأم ليلا لكي ننام، الهرين بعرض البيت وطول مترين أو أكثر قليلا بجدار من الطين يعلو إلى قامة الرجل، يوضع فيه القمح الذي يحتاجونه يوميا للكسرة، أما الباقي، فتجهز له المطامير (بالله راهي مش أمازيغية، عربية قحة من فعل طمر: حفرة مستديرة في الأرض الصلبة المرتفعة لخزن الحبوب)، المطمور الباهية تخزن أربعين قلبة (وحدة قياس الحبوب في الريف، أكبر منها الويبة)،

مع كل موسم تقع صيانة المطامير بالطين المخلوط بقش القمح ثم تغلق بأغصان الأشجار النبيلة والقش والطين مع حفر حوض حولها لتحويل مجرى ماء المطر، ولم نكن نسمع بالدوك أصلا، يبيع أهلي القمح في الأسواق حسب حاجتهم إلى المال، لم نكن نهتم بقرار بورقيبة في منع نقل الحبوب بين الولايات ولا بالتسعير، فالسعر تحدده جودة القمح التي تعرف من مكان الأرض، يقال مثلا: الحاج فلان فتح مطمور قمح أرض المشتى من أجل عرس ابنه البكر.

مع تعهد المطامير تبدأ إجراءات العولة، يتم تسويم القمح أي غسله ثم تجفيفه، لا تكفي رحى الأسرة فيتم جلب رحى أخرى من أحد بيوت الأقارب، عثر أحدهم مرة قرب البيت على رحى رومانية "'متاع الجهال" لأنه لا يمكن تحريكها إلا بقوة فوق قوة البشر، ربما بالحيوانات، "قالوا عيشة رحاية، قالت زيدوني قلبة": مقياس فخر المرأة الريفية في ذراعها من أجل أسرتها،

وحتى لا أنسى، فإن من أطرف ما نشأت عليه أن أصل أهلي في سركونة وضعوا مجوهرات نسائهم في "رقبة بعير"، كما كان رائجا في حفظ المصوغ، ودفنوه في مطمور شعير في زمن الاضطرابات خوفا عليه من "الخيان" (جمع خائن: لص)،

فجاءت السيول وردمت المطمور وضاعت ملامحها وضاع معها كنز العائلة الذي نسيناه، لا يلهب ذكراه إلا راع بين الحين والآخر يزعم أنه عثر على أثر لمطمور الشعير الخرافية.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات