"من يتثبت لنا في صدقية الوثائق التي نشرتها قناة الزيتونة

الوثائق المنشورة تخص تفاصيل الاتفاق الأمني العسكري بين تونس والجزائر والذي ما يزال غامضا لم يصدر بشأنه بيان رسمي من البلدين ولم يناقش في أي فضاء حكومي أو برلماني مثل لجنة الدفاع والأمن والقوات الحاملة للسلاح التي تضع في مهامها "كل المسائل المتعلقة بالأمن والدفاع والقوات الحاملة للسلاح" أو أي فضاء إعلامي أو اجتماعي، الحديث عن تفاصيله المثيرة موجود منذ أسابيع، تستطيع أن تسخر منه لكنك لا تمنع الناس ولا وسائل الإعلام من الحديث عنه في إطار "النميمة" الاجتماعية بصفته "مؤامرة على السيادة" إلى أن يصبح في غياب الموقف الرسمي "حقيقة صلبة"،

الصحافة وحدها تملك إمكانيات التثبت في صدقية الوثائق بما تملكه من أدوات ووسائل وعلاقات مهنية، ثمة اختصاص صحفي اسمه "الاستقصاء" يخضع لقواعد مهنية متفق على كفاءة منهجيتها وموضوعيتها، ننطلق من فرضية أن نثبت أنها صحيحة مع التزام الصرامة القاسية دون أي تقييم لمحتوى الاتفاق لكي لا نفقد الموضوعية ولكي نترك ذلك للناس،

إذن: هل يمكن أن تكون هذه الوثائق صحيحة؟ دون أن نغفل في مثل هذا الاستقصاء الصحفي أنه ليس في صحتها فقط، بل في "من" يملك مصلحة في تسريبها من داخل أسرار المؤسسات العسكرية سواء كانت صحيحة أو مفتعلة؟ قد نحسبها سريعا على نضال المعارضة، لكن العالم ليس بهذه البراءة،

من الناحية الشكلية، الوثائق المنشورة لا تملك أي دليل على صدقيتها من المرجعية الإدارية والقانونية مثل الأصل والمصدر ورقم الوثيقة والإمضاءات بالاسم والصفة والعلاقة وخصوصا أصل "الاتفاق الحكومي" الذي يجب أن يستند إلى قرار حكومي له مرجعية مجلس الوزراء مع فرضية أننا في دولتين لا تحتاجان كثيرا لمثل تلك المرجعيات الدستورية، هي مجرد نص في أوراق عادية يمكن كتابتها على وورد، وجود عبارة "سري للغاية – دفاع" باللون الأحمر أو "مستوى النشر: مقتصر على السلطات العسكرية والأمنية المخولة" يثير الشبهات، في مثل هذه الوثائق عادة ثمة تصنيف بالتسمية لهذه السلطات "المخولة" سواء مباشرة أو بالترميز،

يجب المضي إلى الآخر في الاستقصاء واستنفاذ كل الفرضيات، لنفترض أنها في أقصى الحالات مسودة داخلية لاتفاق قبل عرضها على إمضاء المسؤولين، ندخل الآن في استقصاء محتواها الذي يتطابق بتفاصيل دقيقة مع ما تم نشره في عدة وسائط اجتماعية خصوصا من خارج البلدين، وهي موضوعيا مصدر مهم لنشر الأخبار السرية الخطيرة دون التعرض إلى المحاسبة، العالم العربي يعرف أهم أخباره منذ عقود من إذاعة لندن في ظل الإعلام العربي الذي تعرفون، مما يضفي نوعا من المصداقية على المحتوى، خصوصا حين نتتبع تطورات العلاقة بين البلدين في عدة مجالات بما يجعل محتوى الاتفاق قريبا من الصدقية رغم عدم جدية الوثيقة المسربة،

واقعيا، ثمة "مسربون" يعلمون داخل النظامين ومنشقون عنهما على اتصال بأصدقاء وزملاء لهم داخل المؤسسات العسكرية في البلدين يمكن أن يكونوا مصادر مفترضة لتسرب مثل هذه الوثيقة قبل إمضائها، لكن صحفي الاستقصاء الجيد لا يستسلم للفرضيات السهلة ويوظف العلاقات المهنية مع الزملاء الصحفيين المناضلين في كل الدول المعنية بالموضوع، سواء في فرنسا أو إيطاليا أو اسبانيا حيث لا يمكن أن يمر مثل هذا الاتفاق الخطير دون علم أو ربما مساهمة مصالحها، ثمة صحفيون وباحثون مختصون في "شؤوننا" يمكنهم النفاذ إلى هذا المستوى من المعلومات، إذا حافظنا على مسافة موضوعية معهم، يمكننا أن نحصل منهم على تفاصيل تنير طريق الفرضية الحقيقية، رغم أن الأصل مهنيا في الصحافة أن يكون للمؤسسات الصحفية الكبرى في تونس مراسلون في العواصم المؤثرة في القرار، "تي هم ما يخلصوش الصحفي التونسي حتى باش يخلصوا صحفي أجبنبي بالأورو؟"،

ثمة فرضيات فرعية هي الأهم: ماذا إذا كانت قوة أخرى وراء تسريب نص هذه الاتفاقية التي لم تنشر بصفة رسمية وهذا طبيعي بالنظر إلى طبيعة العلاقات بين دول المغرب الثلاث ومواقفها المتضاربة حول ثورات الشعوب على السلطة وعلاقات كل واحدة منها ببقية العالم العربي والأوروبي وبأمريكا وبصراعات الصحراء الغربية أو جنوب الصحراء بما فيه أنابيب الغاز نحو أوروبا؟ هل كان هذا الاتفاق بين دولتين ضد دولة ثالثة؟ هل أرض تونس أو نظامها مهددين داخليا أو خارجيا حتى تحتاج إلى اتفاق عسكري مع الجزائر؟ هل تونس عاجزة عن الدفاع عن نفسها من أي اعتداء داخلي أو خارجي؟ ماذا لو تم استدعاء أحد قادة الجيش التونسي للإجابة عن هذه الأسئلة؟

طبعا، مستحيل، ليس فقط استدعاؤه بل طرح الأسئلة الحقيقية عليه، لذلك سوف تنمو الأخبار غير الدقيقة، الإشاعات وحتى الهذيان العام من الجهتين لتصبح حقائق صلبة غير قابلة للتكذيب، مقياسه الوحيد هو عدد الغاضبين من الوضع الاجتماعي،

بقيت الفرضية الأهم: فرضا عثرت على الصحفي الجوهرة المهتهم بتقصي الحقيقية؟ من سيقتنع بمثل هذه الأهداف الصحفية الكونية في حوانيت التهريج الصحفي في تونس؟ من سيدفع له أجره؟ وإذا استفردوا به، أي قانون وأي مجتمع سيحميه؟ لذلك، خلي الإشاعة والنميمة واجتهادات رواة الخرافات يصنعون الوعي الجماعي والأكاذيب الصلبة،

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات