شهادة للتاريخ:

"التشتت الانتخابي" في البرلمان كان خيارا علنيا من "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" في مارس 2011 لهدفين: الأول: تمكين أكثر ما أمكن من الحساسيات السياسية حتى التي تتكون من "أربعة ديار وكلب" وليس لها أي وجود في الواقع من فرصة الوصول إلى التمثيل في البرلمان التأسيسي والثاني: الحد من التغول المتوقع لحركة النهضة، وكانت تخيم على أشغال تلك الهيئة مخاوف من سيطرة الإسلام السياسي على السلطة وأخونة المجتمع التي لن تحدث أبدا، حيث واجه "صناع القرار الحقيقي" في برّ تونس لأول مرة معضلة كيف ننتقل إلى مجتمع ديموقراطي دون أن تنفرد النهضة بالسلطة، لأنها الوحيدة الجاهزة عمليا للفوز بالأغلبية في التأسيسي وبالتالي كتابة الدستور الذي سيقرر مصيرنا وصناعة سلطة طويلة المدى،

"صناع القرار" هؤلاء لا يهتمون بالحملات الانتخابية في المدن والقرى المفقرة ولا بالأسئلة الحقيقية لهذا الشعب وليس لهم أي مبرر لذلك، فقط الحفاظ على امتيازاتهم في الدولة الريعية مع النهضة أو الشيطان، وهم يخترقون كل التيارات السياسية بالعرض، رابطين خيوطهم مع أشخاص من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لأن من لا يصلح للسلطة يمكن أن يصلح لإفسادها عند الطلب،

المهم: صنعت النهضة تحالفا سياسيا هشا لعامين فشل في إنجاز مؤسسات حماية الديموقراطية، اقترفت أخطاء تاريخية ثم تحالفت مع الفساد نفسه وحمته بحجج سخيفة مثل حماية المسار الديموقراطي، لكن الفساد لم يعترف لها بتلك المزية على حساب الوطن، حتى وهي تطيح بحكومة الحبيب الصيد إكراما لصناع القرار، أضعنا فرصة أن نعقلن حجمها الحقيقي بالديموقراطية،

الأهم من كل هذا، وهي شهادتي للتاريخ: أحد أهم الشخصيات المؤثرة في تحرير قانون الانتخابات قال لنا ذات ليلة: "خيطنا لهم قانونا لكي لا يحكموا ولا نحكم ولا يحكم أحد، ستكون هناك حكومة كل نصف عام"، كانت عندهم قناعة أن البدائل المتوفرة لا تقدر على مواجهة النهضة بالديمقراطية بما فيها الفرصة التي أتاحها الباجي قايد السبسي الذي كان يقدر عل صنع تحالف يساري دستوري نقابي لكنه وجده ممزقا بالخلافات التافهة ففضل عليه تحالف النهضة التي منحته ضمانات استقرار أكبر، "لتكن الفوضى إذن"،

النتيجة أن كل حكومة كانت مؤقتة فتغرق التي بعدها في الانتدابات الوهمية والزيادات في الأجور وتحقق ذلك بالديون الفاحشة دون أي برنامج لتطوير الإنتاج لأنه يحتاج أساسا مقارعة صناع القرار الحقيقي إياهم ووقتا وضمانات لم تكن تتوفر لأحد، فانتهى الأمر إلى سلطة اللوبيات حتى في تعيين المعتمدين وإسناد احتكارات بيع الشراب،

الآن: هل كان القانون الذي خيطوه لنا في الانتخابات يهدف إلى إيصالنا إلى تقبل فكرة خنق الديموقراطية في حد ذاتها ومنعها من إصلاح نفسها بالطرق الدستورية؟

بالمناسبة، إذا كانت هناك طريق ثالثة، فهي لمزيد إغراق التجربة الديموقراطية في الفشل، هناك طريق وحيدة من حيث المبدأ: الاحتكام بأسرع ما أمكن إلى المؤسسات الديموقراطية وإصلاحها من الداخل بآلياتها، الباقي شذوذ لغوي لا معنى له دستوريا لتأخير شيء حتمي، حتى في الأشلاء التي بقيت منه، ستعود الديموقراطية أيا كانت خسائر صناع القرار، بالنهضة أو بغيرها،

في باب الأخذ بالخاطر: ليس هناك شيء اسمه "قضاء البحيري" ولا قضاء النهضة، رجل القانون ينظر إلى حيثيات الحكم القضائي وبنائه ومدى احترام الإجراءات وثغرات الطعن في الحكم، أما رجل الشعبوية والغوغاء فيرفض القضاء من حيث المبدأ ويخترع لذلك الأسباب لأنه يفضل المحاكمات الشعبية والسحل في الطريق العام، وفي أفضل الحالات: إنشاء محاكم استثنائية غير دستورية لمواجهة عجزه عن إقناع الناس بأفكاره في انتخابات نزيهة يراقبها العالم،

أخيرا: هذا النص غير معني بجريمة "أنت نهضة لكن"، فهذا يعيدنا إلى النص المخيط،

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات