شخصية الشامت في إنسان في محنة أو إضراب جوع ليست غريبة علينا ولا حالة عابرة أو شاذة، يجب أن ترى قبل ذلك شخصية رجل السلطة الحاكم السجان/ الشرطي الذي يتمتع بتعذيب إنسان لا يعرفه لمجرد متعة التعذيب، هو لا يكتفي بالتعليمات لتحصيل اعترافات أو معلومات خفية بل يبدع في التعذيب إلى حد تحويله إلى فن ومتعة شخصية، التعاطف مع ممارسي التعذيب أو السخرية من الضحايا هي نفسها،
من بين عشرات رجال الشرطة وسيارات الخدمة، كان من نقلني من مكتب التحقيق في محكمة الكاف يوم 19 جانفي 1986 إلى السجن هو موظف مدني في الأمن من أقاربي في سيارته الشخصية رينو كاترال بيضاء اللون مقيد اليدين إلى الخلف، متطوعا فقط لكي يقول لي بتشف إني عاق للدولة وللزعيم بورقيبة ولأهلي الريفيين الطيبين، لولا رعاية الزعيم لكنت راعي أغنام في سركونة، "كلب ما تحشمش وأبيّك راجل زوالي طيب"، كان يقودني إلى السجن وساعة ساعة، يلطمني بظهر يده على وجهي وأنا مقيد رغم قصر المسافة، لم أنتبه إلى الدم في فمي إلا لما قال لي حارس السجون في البوابة: "امسح الدم من فمك".
زرته في بيت احتضاره الشنيع بمرض السرطان بعد أن أصلحت حياتي وأصبحت صحفيا نهما للفهم وطرح الأسئلة الحقيقية لأرى كيف يفكر الجلاد وهو مقدم على النهاية بحثا عن معنى لكتاب "أحباب الله"، لا هو يدرك معنى الاعتذار ولا أنا كنت أسأقبله، لقد أخذ ملفي وملفات عشرات المظلومين معه إلى الله، كان يمكن اشتمام رائحة الموت الناتج عن تعفن الخلايا في أنفاسه منذ رواق بيته الفاخر، سألت نفسي وأنا أغادر بيته: هل سامحته؟ أجبت بصرامة: لا، خصوصا أن الخراب جاءني من أحد في العائلة،
قبله، الشرطي الذي علق ساقيّ في الفلقة في مركز الشرطة في تاجروين وقتلني ضربا لأمضي على محاضر لا علاقة لي بها هو أب صديقي وزميلي في الدراسة لأساعده في النجاج في الباكالوريا، كان يشتري لنا علبتي سجائر روايال والقهوة الجيدة مما يحجزه عن المهربين من الجزائر ويعلن حالة الطوارئ في البيت، مرة عاد سكرانا فلخص لي كل شيئ: "يجب أن ينجح ابني في الباكالوريا لكي لا يكون عون شرطة بل ضابطا"، كان يتلذذ بضربي وكأنه مسألة شخصية: "ولد الـ...، أكلت مائي وملحي في بيتي"،
بعده، غضب مني حاكم التحقيق لأني كشفت له عن ساقي المضرجتين بالدماء من الفلقة، "تعترف عند البوليسية وتنكر عندي أنا؟ مش لاهي بيك توه" ثم أمر بإيوائي في مركز الشرطة بن عنين، أذكر أني كنت أموت من الجوع في الجيول لأني لم آكل شيئا منذ اليوم السابق حتى أشتهيت أن آكل قشر الجدران كما حدث في في المدرسة بسبب التوتر والخوف، عندما فتح الباب وقال الشرطي إن أبي قد جلب لي صحن لوبية من أقرب مطعم قذر للغرباء، رأيته يأكل لحمة الطبق، يزدردها على عجل قبل أن يمد لي من الباب الصحن ونصف خبزة، لن أغفر له سواء كان تحت الأرض أم فوقها، لأجل خيانة مشاعر أبي.
في سجن الكاف، حظيت برعاية حراس من أهلي الذين كان أغلبهم يتوقف عن الدراسة مبكرا للعمل في الجيش والشرطة والسجون للإنفاق على من بقي في الريف الشاق، أما في سجن القصرين، فقد اشتهيت قتل حارس سجون افتك مني كتابا عن الفلسفة كنت أتمتع بقراءته، "هكه فجأة" فاض الكأس، أمسكته من رقبة ملابسه النظامية وسحبته إليّ عبر قضبان الحديد في يوم شديد البأس والوحشة، ضربة فيه وضربة في الحديد إلى أن جرى الدم من قبضتي، عندما نجحوا في افتكاكه مني، انهار مثل ميت، تخيلوا وحدكم نصف يوم من الضرب وأحد عشر يوما من العزل في السيلون كدت أجن فيها، كان عمري 19 عاما وشوية دين السماء ودخلت ذلك العالم الجهنمي من أجل مظاهرة تلاميذ يا أولاد الكلب،
هذا النص ليس مجالا لاستعراض رجال الأمن أو السجون الطيبين، هم كثّر لكن التعسف أقوى أثرا وألما ورغبة بعضهم تحويل التعذيب والاعتداء إلى متعة شخصية أكثر بقاء في الذاكرة لأنها رغبة مرضية ضد الطبيعة البشرية، لقد تعرضت حتى وأنا صحفي معروف ولدى علاقات إنسانية جيدة مع مسؤولين كبار في الأمن إلى اعتداءات تصل إلى حد العبث،
بقي السؤال الأهم لنا: هل ينشأون بجاهزية لممارسة الجريمة الشنيعة في التلذذ بالتعذيب والاعتداء أم أن ظروف العمل تنتخب بعضا منهم ليصبحوا كذلك؟ ثمة سؤال إداري أيضا: لماذا تغمض دولة الأمن عينيها على مثل تلك الإعتداءات وتبذل جهدها لحماية من يمارس التعذيب لمجرد المتعة؟ لماذا لم يحاسب أحد من أعوان الدولة على عقود طويلة من التعذيب الذي وصل حد اغتصاب الذكور والإناث لمجرد متعة التعذيب وتحطيم الكرامة البشرية؟ متى يتوقف هذا الشيئ الشنيع في العالم العربي ويصبح حقا جريمة لا تقبل العفو أو السقوط بالزمن وتستحق أقصى العقوبات لتعلقه بالتلذذ بتعذيب الإنسان؟