حكايات متداخلة عن تاريخ القمع والخوف واعترافات متأخرة

هل على السيد عز الدين الحزقي عند إيقافه اليوم، بعد أكثر من أربعين عاما من محنته أن يعيد تأليف كتابه الجميل "نظارات أمي" التي يحاول فيها بشجاعة أن يعالج الآلام التي لا تشفى لقرابة ستة أعوام من السجن وما قبلها وما بعدها منذ عام 1973، من أجل "التآمر على أمن الدولة" وهي تهمة لا توجد في أية دولة أو مجتمع ديمواقراطي، حيث لا تكون الدولة هشة إلى درجة اختراع مثل هذه التهمة السخيفة لمواطنين بسطاء، جريمتهم الوحيدة هي التفكير خارج السلطة الغالبة،

يذكرني إيقاف المناضل عز الدين الحزقي بمناخات الرعب لما قبل إيقافي في مدينة تاجروين نهاية 1985 عن أكبر دراما موحدة للعالم العربي: هذه الآلة العمياء العنيفة للدولة عندما هبت رياح محنتي: الخوف والتوجس وتوقع ظهور المدنيين الذين يصطادونك ليلا من السطح أو من قارعة الطريق بسرعة وعنف دون أي مبرر أو أية حقوق في ظل الصمت الغامض لسيدة العدالة والسجن: النيابة العمومية.

النتيجة غطس الكثير من الأشخاص إلى السرية وانقطعت العلاقات التي تصنع شبكة المقاومة ومحاولة الفهم، يذكرني هذا أيضا وأنا "كبران بيت ثمانية" في سجن الكاف المدني في 1986: جلب لنا أعوان الحرس عند الخامسة مساء طفلا في الخامسة عشر وشوية من العمر وساقاه بدماء الفلقة في شلاكة أمه ووجهه مهشم من الضرب، رفض مدير السجن قبوله بحجة "أن المساجين سوف يأكلونه في الليل قبل أن تراه النيابة العمومية المجيدة أو تنظر في أي شيء من دمائه"، يا إلاه الفقراء، علقه أعوان الحرس في بوابة السجن الخارجية من يديه وذهبوا وقامت زوجة مدير السجن بفك قيده بالمفتاح الذي عند زوجها وبسطت له فراشا بين بناتها الثلاث إلى الغد، حيث أفرج عنه وكيل الجمهورية، إنما محملا إلى الله بملف إيقاف وتعذيب طفل باسم أمن الدولة العتيدة،

أية مقدمة وأية مبررات قانونية يمكن الاطمئنان إليها من أجل إيقاف شيخ في عمر السيد عز الدين الحزقي وهو الذي ظن أن أنه قد دفع ما يكفي وأكثر لكي ينتهي زمن محاكمات الرأي وانتماءات الأبناء؟ لقد وقّعت جامعة بوسطن الأمريكية عقدا معه لترجمة كتابه "نظارات أمّي" وتوزيعه في الولايات المتحدة الأمريكية، كما تعهد المخرج التونسي المنصف ذويب لتحويل الكتاب إلى عمل روائي، في الأثناء، حاصرت قوات الأمن بيت ابنه جوهر وابنته دليلة وكتبت محامية مناضلة معروفة أنها لم تعد تقيم في بيتها لتجنب أطفالها مشهد المداهمة الليلة التي قد تنتهي بأضرار جسدية بالغة، فيما يروج مساندون للسيد الرئيس معلومات عن قائمة طويلة ممن سيتم إيقافهم على إيقاع تصريحه بأن من يتعاطف مع الموقوفين هو متآمر معهم، ثمة أيضا صحفيون كثيرون على القائمة،

اسمحوا لي بالعودة إلى أول الثمانينات، أنا اكتسبت أول أفكاري السياسية مبكرا في المعهد الفني بالكاف منذ 1977/78، بين نوادي السينما والمسرح ورجال المدينة وريفها الأكثر جنونا في برّ تونس وكانت خليطا من النضال الاجتماعي مع شيء من التيار الريفي المحافظ، تعذبنا مبكرا بعدد كبير من الموقوفين من العائلة، باسم اليسار مرة وباسم التيار الإسلامي مرارا، كان عمري 15 عاما عندما أمسكني رجل اسمه محسن من أهلي وهو يلاحقنا متطوعا بسيارته وأنا أهرب لفة من منشور سري للثورة مطبوع على آلة ستانسيل في 1980 عبر السور الخلفي من جهة حي حشاد للمعهد الفني بالكاف، لا تعتبر بعض الكفوف تعذيبا لكنها كانت كثيرة وعنيفة وكنت صغيرا وذا كبرياء لا يتحمل الصفع عللاى الخشم، ثم إني لم أكن أعرف لمن أنقل لفة النسخ سوى أن أخرجها من المعهد الثانوي تحت تأثير الخوف، وقد "سلكها" لي أحد أقاربي من اتحاد الشغل وخنانتي مختلطة بدمي عائدا بي إلى بيته، في جانفي 1982 وقعنا، نحن خمسة أصدقاء متلازمين أذكر منهم توفيق الألماس وساسي الشارني وعبد الله الصندي (أرجو أن يكونوا أحياء وبخير) في أيدي شرطة مستحدثة كنيتها DST أسوة بإدارة حماية التراب الفرنسي جاءوا بهم من تونس لأجلنا، أما في ثورة الخبز 1984 فقد فقدنا ثلاثة رفاق، منهم صديق كان مصابا في بطنه برصاصة، حملناه معا من يديه وساقيه من أمام محطة النقل القديمة وتسورنا به سور المستشفى الجهوي من جهة المعهد الثانوي من حيث كانت مدرسة الممرضين، وقد مات بعد يومين على الأكثر حتى أننا كنا نخاف أن نزوره لتفقده خوفا من الإيقاف عندما أحكمت الشرطة قبضتها على المستشفى،

"دين السما"، نحن نشأنا على أغاني المقاومة في دار الثقافة ورحلات الربيع الأسبوعية إلى champs de tir في جبال الدير وأغاني ناس الغيوان ثم جيل جيلالة وأفلام كوستا غافراس أو فيلم Citizen Kaneونقاشات سينما أورسن ولس حول دور الصحافة المناضلة أو الواعية حيث لم أحلم أبدا أن أكون صحفيا، لقد حلمت في أول سنوات الطفولة أن أكون معلما ثم مدير مدرسة ثم أن أكون "طبابلي" أو مغني أرياف ذي صوت مجيد، بعد ذلك حلمت بأن أكون طبيبا، لكني اكشتفت كرهي العميق لرائحة "ثنائي الإيثيل" والفاصمات والضمائد وعجزي أمام آلام البشرية ثم إن عمي "صالح بالثابت" الذي كان يعالج كسور وأمراض طفولتنا في دشرة نبر مثلما يعالج ببراعة كسور الأبقار والبهائم بالكي وجبائر العظام والبيض، جعلني أكتشف أني لم أخلق لتحمل آلام البشرية، بل للاحتجاج عليها، آخر مرة رأيته فيها رحمه الله كانت بعد حادث ضربني تعوّج فيه أحد ضلعي بسبب ضغط حزام الأمان، سلمني إلى "الفرملية" زوجته الفاضلة حيتوتة التي "مسّدتني" على طريقتها إلى أن بلغت صرخاتي عمالنا بالخارج، ومن وقتها لم أعد أقترب منه لأنه كان يقترح علي شوية كيّ بالطباعات، وهي مسامير يحميها على كانون النار،

بعد ثورة الخبز، وجدنا أنفسنا وكنا أكثر من اثني عشر تلميذا ومنحرف معروف من حومة الصفايا كان يعتاش منا في قبضة الرهيب "عبد ربه متاع الشرطة العدلية" الذي كان يشرف على قاعة كتب على بابها بالطباشير "salle blanche" أسوة بغرفة العمليات في المستشفيات العتيدة، وكان عنده في هذه القاعة الواقعة في مقر الشرطة الذي يقع بعد المستشفى الجهوي آلات تعذيب مثل الفلقة والعصي والشرنمبت وذل البقرة والكلاليب، وهناك قضينا يومين ونصف اليوم تحت الفلقة ونحن نروي لهم كل ما نتخيل أنهم يريدون سماعه، وقد أصابنا أحدنا بالرعب حين كشف لنا عائدا من حصة التعذيب أن أحد أعوان الشرطة توعده بالتداول على اغتصابه قبل أن تشتغل عائلته وهي من أثرياء وادي السواني لإنقاذه وإنقاذنا معه من المحنة،

أنا أطردت بسبب تلك الأحداث من كل معاهد مدينة الكاف مرارا وأعادني أخوالي من الشوارنية البسطاء الذين كانوا مستعدين لنصب خيمة أمام مندوبية التعليم من أجل أن يستمر أبناؤهم في الدراسة، تنقلت بين المعاهد إلى أن قرر مدير المعهد المختلط بالكاف أن "أنفى إلى مدينة تاجروين" حيث لا أعرف أحدا، وهناك أصبحت فوضى: المدير يمارس الجنس مع التلميذات، ونائب القيم العام سلبي يبحث عمن يفاحشه، وفوضى بلد يغرق في البؤس وعنف الدولة وتعسفها وقمعها لكل نفس تحرر،

نعم، أنا من "خسرت 300 مليم" في التاكسيفون لكي نعلم زوجة المدير أن زوجها الخبيث بصدد مداعبة زميلتنا في الباكالوريا في جانفي 1986، وقد جاءت على عجل في "روب دي شامبر" مسافة 200 متر لكي تحطم وجه زوجها ونظارته عندما ضبطته متلبسا كما وضحنا لها، بذلنا جهدنا لكي تصل الحادثة إلى الإعلام وجاءت فرقة مقاومة ما لا أدري ونشرت جريدة الصباح في صفحتها الأولى خبرا عن الحادثة، أي؟ لا شيء، أنا دخلت السجن لأن المدير ظل يتذكر لي ذلك،

نعم أنا الذي كتبت رسالة شكوى إلى وكيل الجمهورية ضد نائب القيم العام الذي كان يبحث عمن يفاحشه في زمن الفوضى، وعندما أرسلوني وحدي إلى السجن من بين 40 تلميذا تورطوا في تدمير مبيت المعهد، وجدت نائب القيم العام وقد سبقني إلى السجن، نظر إلي من بعد من غرفة الموقوفين الكبار صارخا: "يا طحان، هاك جيت؟ أنا باش نروح وأنت باش تروح فيها"، هو اعترف ونال نصف عام سجنا من أجل اللواط السلبي وأنا ضربت حكما بخمس سنوات ونصف سجنا من أجل حرق جراية لم يكن لي فيها أي دور،

سيدي، سي عز الدين الحزقي، إليك في سجنك، أي معنى يمكن إعطاؤه بعد كل هذا لمحنتك في عمرك هذا؟ كان يمكن أن تكون حياتك في بلد آخر موضوعا للدراسة والاعتبار حول الحقوق والحريات وصناعة المواطن الواعي القادر على الاختيار والمقاومة،

سي عز الدين، أي شيء يمكن أن يكتبه صحفي عجوز مثلي بعد قرابة 34 عاما من مهنة الصحافة و45 عاما من الحياة المضطربة؟ ونحن نعيد حماقات السلطة؟ أشد وجهي بين يدي، وأفكر،

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات