بقلة لها لأنها قارصة: عن العالم السفلي لمراسلي القنوات التلفزية

Photo

الأحداث الأخيرة ذكرتنا بحالة الفوضى التي تحدث تحت صفة "مراسل صحفي"، حيث كل ما يطلبه الكثير من هؤلاء ممن لا يفرقون بين الخبر والتعليق هو الستر إلى أن تحدث المصيبة، وفي بداية التسعينات كان ثمة معلم تونسي عائد من السعودية مع قائمة عناوين وأرقام فاكس رؤساء تحرير أهم الصحف السعودية، استأجر مكتبا في أغلى مكان في قلب العاصمة لكي يسرق مقالات الصحفيين التونسيين التي قد تهم الخليجيين وخصوصا الجرائم الغريبة،

قيل إنه كون ثروة حقيقية وازدهرت مهنته فاستخدم خمسة صحفيين من خريجي معهد الصحافة للسرقة حتى أننا نروي من باب الطرائف أن إحداهن استسهلت الحكاية فأصبحت تختلق المقالات من رأسها، وأنا نفسي وجدت مقالا كتبته حول إصدار ويندوز 1995 في جريدة الشروق منشورا حرفيا بأخطائه المطبعية في صحيفة إماراتية وأخرى سعودية باسم زميلة معروفة جدا لا تفرق بين التلفاز والحاسوب، ولم أفطن له إلا بعد العراك بين الصحيفتين، ولما سألتها عن ذلك، قالت: "تي أنت خلصت في مقالك؟ أش يهمك فيّ إذا ندبر بيه راسي؟"،

بعد ذلك نشأ جيل من المراسلين السريين بعلم وكالة الاتصال الخارجي وتشجيعها، وأغلبهم له مهنة أخرى، لا يفرقون بين الخبر والتعليق فما بالك بالقيم الصناعية، لكن الصادم حقا في علاقة الصحافة الخليجية بنا، هي الانتدابات السرية في غرف النزل والشقق المفروشة والعلاقات الشخصية، صحيح أننا أعطينا أفضل ما عندنا إلى المؤسسات الإعلامية الخليجية، لكنهم قليلون، كثيرون حصلوا على عقود في سهرات ليلية أو بتوصية من زميل قديم دون أي نظر إلى مسألة الكفاءة ولا حتى الاختصاص أو التفرغ،

مرة كتبت مقالا عاديا عن استثمار خليجي في تونس فاتصل بي سفير تلك الدولة لكي يعلمني أنه سيرسل لي هدية، نسيت الأمر إلى أن وجدت يوما في جريدة الشروق في مقرها القديم في نهج الشام مصحفا باسمي، قررت أن أعيده إلى السفارة مقترحا إهداءه إلى مسجد، وجدت ثلاثة زملاء صحفيين معروفين يشتغلون في السفارة، أحدهم كان مكلفا بنسخ الوثائق، اعتذر لي السفير مؤكدا أنه أرسل لي مع موظف تونسي كان أستاذ تربية إسلامية متعاقد في بلده ثم أصبح مكلفا بالإعلام في السفارة "معدات مكتب ممضاة وفاخرة، وساعة يدوية مرصعة بالذهب وأشياء نسيتها"، استولى عليها كعادته، أنا لست بطلا، لكني "نجي نقول صحة، نقول سداف"’ عبرت عن ازدرائي لاختيارهم الغريب وهو أمر يشبه الكفر عند هؤلاء، لذلك بقي المصحف على مكتب السفير الذي حدثني عن مشروع لانتداب عدة صحفيين من تونس أنا أولهم،

لكنهم في النهاية أخذوا معهم شذاذ الآفاق وغرباء عن المهنة، أما عن المراسلين في تونس فلا تسأل، ثمة كم هائل من الجهل بواقع المهنة وكفاءاتها في تونس، وبعد الثورة، اتصل بي مسؤول فلسطيني على موقع عربي شهير في أوروبا للتعاقد، تقريبا انتهينا من المسائل القانونية لما حدث شيء غريب: تدخل صحفي تونسي معروف لكي يتم انتداب شخص آخر كان ينتج برامج إذاعية غبية، النتيجة: إثبات أكثر من 15 عملية سرقة مقالات لزملاء فقراء، أغلبهم يحصل على أقل من 600 دينار شهريا دون ضمان اجتماعي، أمورهم؟

وثمة جيش من المتمعشين من الصحافة يضربون في أربعة مقالات أجر صحفي جيد في تونس، مقابل انتحال مقالات صحفيين محليين يقتلون أنفسهم من أجل العمل الميداني، صحيح أن أغلب المحتالين في الصحف الورقية قليلة الانتشار وفي مواقع الشركات الأخبارية، لكن الفوارق بين الصحفي الحقيقي ومنتحل الصفة تظهر في الأزمات الحادة، حيث تصبح الكلمة بحسابها، حيث نكتشف بقوة الواقع أن صاحبنا الذي يرافقنا دون دعوة أو صفة في جلساتنا وفي عملنا مراسل قناة تلفزية في الخليج، بعضهم يضرب على كل مراسلة 1500 دولار، يعمل أربعة مراسلات في الشهر تجي 6 ملايين، هذا يفسر كيف اشترى أرضا وبنى فيها فيلا في ضاحية فلاحية بورجوازية،

صحيح أن هذا أصبح صعبا بحكم كثرة المنافسين على الصحافة المزيفة، لكن ذلك حدث طويلا وبعضهم الآخر تفطن إلى خطة مهنية سرية اسمها بالأنقليزية fixer وهو مساعد الصحفيين في توفير العلاقات واللقاءات والتنقل وكل ما يلزم لعمل الفرق الصحفية الأجنبية في تونس، أحدهم أستاذ تربية مدنية كان يضرب في كل مرة 500 أورو، 1800 دينار يا بو رب، مقابل أن يمرجنا بطلب أرقام الهواتف وأسماء المسؤولين،

ليس لي أي أسف على ضياع أية فرصة محتملة للعمل في الخليج، أصلا مزاجي الجبلي الحاد لا يتيح لي العمل في تلك الأجواء بأريحية، وما زلت فخورا بالمسافة الصعبة التي أضعها بيني وبين الفساد الإعلامي، لو كان جئت أصلح له، راني صلحت ليه في بلادي، قال عمي الذيب للعنبة لما بدت له عالية: "بقلة ما كي قارصة"، إنما الحديث كان عن تنازلات العوالم السرية لهذا القطاع المبعثر،

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات