في تحدي قتل الإعلام العمومي عرقا بعد عرق: هذه السدرة، وهذا الحصان، وأنت رئيس كل شيء،

من باب النزاهة، مثلا: أي جواب يمكن أن تقدمه وأنت موظف في الإعلام العمومي على باب نهاية المهنة عمريا، إلى مواطن تونسي محترم، يطالبك بحقه في التوقف عن دفع المال في فاتورة الكهرباء إلى الإعلام العمومي لعدم الجدوى مثلا؟

إن أغلب من أتحدث معهم يذهبون إلى حد الإحساس بعداء الإعلام العمومي للقضايا الحقيقية وإغلاق العين عنها، تماما كما كان يحدث في تلفزة بورقيبة وبعده في إعلام بن علي، وهو حديث وجيه لما ترى التلفزة العمومية تبث صورا متحركة أو مسلسلات تركية ممجوجة، فيما الوطن يحترق أو يغرق بالفيضانات أو المظاهرات، لا علاقة لهذا بكلفة الإنتاج، بل بالإرادة وبوجود مشروع من عدمه،

ستحاول أن تقنعه أن هذا الإعلام العمومي يمثل رأس مال الإعلام في تونس، يضم أفضل الكفاءات، ثمرة أفضل مدارس الممارسة المهنية وهو خشبة النجاة في الأوقات الشاقة، وتحدثه عن المشاكل القانونية القديمة التي تعيق الإعلام العمومي عن القيام بدوره وعن خيانة الحكومات المتعاقبة له، أيه، يقول ك؟ والنتيجة؟ نحن نريد إعلاما موضوعيا، يجيب على الأسئلة الحقيقية للشعب؟

الجواب على هذا السؤال يوجع الرأس والأصدقاء ويصنع لي عداوات عميقة: ذات مرة، دعاني صديق قديم للاطلاع على مشروع تطوير للقانون الأساسي للإذاعة العمومية في 2018، أذهلني فيه كثرة المراتب الإدارية والكواهي (كاهية)، 80% من جهدها يذهب إلى الإدارة، مؤسسة إدارية بيروقراطية ضخمة فيها "شوية صحفيين" في أسفل سلم صناعة القرار، مقارنة بقانون الشغل والاتفاقيات المشتركة للصحافة، لقد نشأت وقضيت ربع قرن في مؤسسة إعلامية خاصة كانت تشغل 170 شخصا وعدة مئات من المراسلين، ولم يكن في إدارتها سوى الرئيس المدير العام ومساعده الإداري وكاتبة ومسؤول مالي،

نشأت ورأيت خارج تونس مؤسسات إعلامية دولية تقوم على خطة رئيس التحرير الذي هو المسؤول الوحيد عن انتدابات الصحفيين والتقنيين والتجهيزات الخاصة بهم وحتى الإنفاق اليومي الخاص بممارسة المهنة من استعمال سيارات الأجرة وصولا إلى النفقات الأكثر حجما مثل تذاكر السفر والإقامة، حسب حاجته لتنفيذ تعهداته للإدارة في تطوير المؤسسة وإدارة الأزمات والفترات الحرجة، يوميا أو دوريا حيث كان عليه أن يدافع بحجج مهنية بحثة عن خياراته المالية، وحيث لا يصبح الصحفي رئيس تحرير إلا بعد أن يقضي 17 عاما على الأقل في ممارسة يومية للمهنية مرورا بكل المراحل الصناعية، وبعد أن يحترق بنيران التغطيات اليومية بكل أجناسها الصحفية، يجب أن يدير تحت إشراف رئيس تحرير أقدم منه، أحداثا حرجة مهنيا مثل انتخابات وكوارث طبيعية ومهرجانات وغيرها مما يثبت جدارته بإدارة فريق وإعداد مخطط عمل وابتكار أفكار وطرق مناسبة ومتميزة للتغطية وللتأريخ لتلك الأحداث والإجابة على كل الأسئلة، يصبح رئيس تحرير مساعد، ثم رئيس تحرير، صاحب مشروع إعلامي.

كل ما تحتاجه مؤسسات الإعلام العمومي هي أن تحقق الانتقال الموجع من مؤسسات إدارية بيروقراطية إلى مؤسسات إعلام حقيقي غير خاضع للإدارة، بل للصناعة المهنية، كما هو معمول به في كل مؤسسات الإعلام العمومي في العالم المحترم، قلب المعادلة لكي يصبح 80% من موارد المؤسسة لصناعة المحتوى، وأن يكون فيها رؤساء تحرير حقيقيون قادرون على تقديم برامج عمل واقعية يلتزمون بها ويحاسبون عليها أمام الإدارة العامة،

إن أغلب من خرج من الإعلام العمومي، وجد نفسه يسبح في مياه سهلة بالنظر لما تعلمه، إن الكثير من زملائي الذين درست واشتغلت معهم، مصابون بالإحباط بسبب إدارة الإعلام العمومي، لقدرتهم على فعل ما هو أفضل بكثير مما هو متوفر، وكل ما يحتاجونه هو أن يكون لهم عقل مهني مدبر له مشروع ورؤية وأن يكون مصيرهم المهني متربطا بدرجة الإبداع والعمل، لا أصدق أبدا أن المشكل في الصحفيين، ربما في طريقة انتدابهم، لكن المشكل أن المسؤولين على الصحفيين ليسوا أصحاب مشاريع، لا الوضع القانوني يسمح بذلك، ولا هم يهتمون، بل يعرفون أنه لا أحد تعرض للمحاسبة على افكاره أو مشاريعه، بل على "نشر السلام الإداري" ما أمكن في التحرير، لتذهب الصحافة والأسئلة إلى الجحيم،

منذ إنشاء نظرية "الرأي المطابق" في الهايكا، تعمد الدولة إلى قتل الإعلام العمومي عرقا بعد عرق، عبر الحكومات المتعاقبة، أيا كان لونها السياسي، لا أحد من السلطة طالب أحدا بشيء لتطبيق التعهدات في تعيين المسؤولين على الإعلام العمومي، كل ما يريدونه بعد ذلك هو بث الجواسيس وأصحاب العلاقات السرية الموازية على التحرير والإدارة، تشتيت سلطة اتخاذ القرار وإرباكها، فوضى في الخيارات، غموض وهروب في الأوقات الحرجة، ينتج كل ذلك طبقة من الولاء المطلق الغامض وانتظار للتعليمات وخضوع مطلق لها بحثا عن الحد الأدنى من الهرج، وجيشا من الغاضبين، ثمرة لأسوأ أنواع إدارة الإعلام العمومي، وين تحب توصل خويا؟

باهي، توه، هذه السدرة (الإعلام العمومي الذي يغرق كل يوم أكثر) وهذا الحصان، وأنت قلت حصانك يقفز فوق السدرة، أنت الآن رئيس كل شيء وبيدك كل شيء وبإمكانك أن تعرف كل شيء حتى أكثر أحاديثنا سرية يمكنك أن تصل إليها، فهل لديك حل لمعضلة الإعلام العمومي؟

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات