لا تفسدوا الجيش رجاء، لكن القضية ليست هنا: في الحاجة إلى صناعة جنرالات مزيفين. (في عسكرة الصحة وحماقات أخرى)

ادخل إلى تلك الماكينة الجبارة "غوغل"، واكتب: "قيس سعيد يصدر أوامره إلى الجيش لإدارة الأزمة" خلال الـ 24 ساعة الماضية، وسط مئات الأجوبة لن تجد مصدرا إعلاميا تونسيا وحيدا، 80% من المصادر من دول معادية لفكرة الديموقراطية والحريات أصلا، حيث الناس ما يزالون يتساءلون بحيرة: ما معنى انتخابات؟ ما معنى احتجاج؟ ولذلك اختار السيد الرئيس قناة العربية لترافقه في جولته للتعبير عن الاكتئاب الرئاسي، وهو يتظاهر بالمفاجأة لإغلاق مراكز التلقيح وفوجئنا نحن حقا بمفاجأته، إذ كان في مقدوره أن يتوقف في الطريق ويسأل أي مواطن فسيقول له إنه تم إيقاف عمليات التلقيح للشباب بعد فضيحة يوم العيد، لكن القضية ليست هنا، بل في نبرة الحزن التي نحسها في وسائل الإعلام المشرقية على حال التونسيين الذين تورطوا في خطيئة الديموقراطية، وحيث بدأوا الآن يرون نهاية النفق بتكليف الجيش بإنقاذهم من الحرية التي يجب أن تقترن في المخيال العربي بالفشل والفوضى والموت الجماعي،

وبحكم معرفتي الجيدة بهذه الدول، حيث الجيش هو أمّ السلطة الحقيقية والوحيدة التي لا تسأل عما تفعل ولا دور لها سوى الحرب على شعوبها وإقامة المحتشدات وإدارة المعتقلات السرية وأنظمة الطوارئ التي تتيح لها الحكم إلى الأبد بالقوانين العرفية في زواج متعة بين الحكم المطلق واحتكار الثروة.

ولما تضخمت صلاحيات هذه الجيوش، أصبحت داخلها عدة حلقات متنافسة من الحرس الجمهوري، الرئاسي، الملكي أو الأميري، وأجهزة المخابرات العامة والحربية منها الجوية والبحرية والبرية، تتنافس كلها في التنكيل بالناس وصنع الخطر إن لم يكن موجودا.

إزاء هذه الصورة، يمكن تفهم أسى أشقائنا على المحظور التي تورط فيه التونسيون، لكن تصيبنا الخيبة إزاء تونسيين يدعون إلى "عسكرة الصحة" لأن الحكومة فشلت في إدارة الأزمة، العاقل يشير إلى القمر والأحمق ينظر إلى الإصبع، وعندما تمطر السماء حرية، يحمل العبيد ممطريات، لأن الحرية هي السبب، في الأزمات، تبحث الغوغاء عن سيد القطيع وكلابه: يضمن لها المرعى والزريبة،

لقد أتاحت لي مهنة الصحافة أن أرافق الجيش التونسي في أغلب الثكنات وفي مهام خارج الوطن، وأن أعيش مع الضباط أوقاتهم الخاصة، حسنا: إن عندنا واحدا من أفضل الجيوش في العالم العربي وأكثرها وطنية وانضباطا ونظافة، أتذكر أيام الثورة في ضاحية المروج أننا قررنا، ونحن نحرس الحيّ، أن نعد أفضل ما نقدر عليه من أكل منزلي لنقدمه إلى الجنود المرابطين تحت المطر والبرد، لكن الضابط الشاب المسؤول قال لنا وعيناه تلمعان من التأثر: "الجيش لا يقبل الهدايا، الجيش لا يأكل من الموائد، لا تفسدوا الجيش رجاء"، وقال لي صديق كان معي: "إنه محق، تصور لو أن أشرارا قرروا تسميم الجنود؟"، وقتها، كان الجيش يصنع الخبز ويوزعه مجانا على الناس لما أغلقت المخابز،

أيها السادة، أيا كان فشل المدنيين في إدارة شؤوننا، فإن أسوأ ما يمكن أن نفعله هو أن نطلب من الجيش إدارة حماقاتنا، اليوم لمواجهة الوباء وغدا لإدارة انقطاعات الماء، وبعدها الكهرباء، وكلما تعطل قطاع، نكلف به عسكريا ونمنحه رتبة جنرال بدل البحث عن الحل الحقيقي، إلى أن نصل إلى توريط الجيش في محاكمة المدنيين، ثم في تذوق الصفقات العمومية ومتاهات السياسة، سنعود وقتها أكثر من 70 عاما إلى الوراء، إلى بورجوازية الجنرالات المزيفين، الذين لم يخوضوا أية حرب سوى ضد شعوبهم والذين يستحيل اقتلاع جذورهم العنيفة من السلطة دون دماء، ونكون قد أفسدنا الجيش، بدل إصلاح الصحة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات