عن هذه المسافة المذهلة بين الإعلام والوطن

تعقيبا على حديث بيني وبين الخال عمار الجماعي عن نهاية العقد الأخلاقي بين الإعلام والوطن

في 2012، عرض علي رجل أعمال تونسي مقيم بالخارج أن ننشئ بديلا إعلاميا في تونس، كنا في قلب الحديث عن ضرورة إيجاد بدائل تليق بالثورة والانتقال الديموقراطي وعودة داخل الوطن إلى التعبير وأهمية ذلك في اعتصام القصبة الأول، بعد الإجماع على نهاية العمر الافتراضي لمنظومة الإعلام العمومي وإعلام بن عليّ،

أذكر وقتها أن العزيز الحبيب بالعيد اتصل بي في فوضى انهيار الإعلام وارتباكه واختفاء صناعه، من أجل تولي إدارة إذاعة الكاف الجهوية، وأيا كان حقيقة ما حدث (موضوع طويل لم أشف منه)، فقد وجدت "دجّالا" بالمعنى اللغوي للكلمة يدير تلك الإذاعة العمومية التي تملك مقومات إعادة اختراع إعلام القرب والثقافة المحلية وأخبارها، وقد علمنا أنه تورط في البحث عن الكنوز وقتها، لكن موضوعنا اليوم أخطر من ذلك،

أنا وقتها "طايب" في محرقة الإعلام الخاص، طلبت من رجل الأعمال المتحمس التريث وأن نبدأ بجريدة أسبوعية ورقية وأن نراهن على عشرين ألف نسخة من المبيعات لكي نتطور تدريجيا مع تطور قيمة المحتوى ومداخيل الإشهار والشراكات وبيئة الصحافة،

في أول لقاء، اشترطت انتداب 6 صحفيين قارين بأجر 1500 دينار صافية، فبدت عليه الصدمة، قال: 1500 يمكن أن أشغل بها ثلاثة صحفيين، انتهت التجربة هناك لاقتناعي أنه لا يمكن صناعة صحافة جادة بصحفيين جوعى، ذكرني بصاحب مؤسسة إعلامية كان خادما عند نظام بن علي، كان يعطي صحفييه 250 دينارا ويقول لهم: "بروا جيبوا عشاكم، وأقرأوا بحسابي معكم"، ثلب على نشر أخبار زائفة، على ابتزاز على حوارات مدفوعة الأجر نقدا، وبين فكرة إدارة إذاعة الكاف وإنشاء جريدة بصحفيين جوعى تساءلت عن الحظ العاثر للصحافة في تونس،

بلغني أن رجل الأعمال ذاك، وجد صحفيين بـ 500 دينار شهريا، لكنه تخلى عن المشروع بعد ثلاثة أعداد فقط من جريدته خسر فيها 75 ألف دينار، وبعد تسعة أعوام عن ذلك التاريخ، ما يزال اليوم، في أشهر المؤسسات التلفزية والإذاعية صحفيون بـ 500 دينار شهريا تحت الحائط يتلقونها بعد أشهر من التأخير، أي أقل من خدام مرمة عند مقاول بناء، مقابل آلاف الدنانير شهريا لكل واحد من منشطي نوادي الليل وكرانكة الجهل والبذاءة، خالية من الضرائب، لا يحق للهايكا أن تتحدث قبل موقف متفقد الشغل من العمل غير المطابق لقانون الشغل والاتفاقيات المشتركة، هذا اسمه ظلم وتعسف في استعمال القانون، صحفيون يعيشون في حالة عبودية وهو يتحدث عن رخص،

إن جولة متأنية في ما بقي من القنوات التلفزية والإذاعية التونسية تجعلك تعود إلى أصل المشكل: هذه المسافة المذهلة والمريعة بين الإعلام والوطن، هذا الإعلام لا ينتمي إلى هذا الوطن، إنه إعلام لوبيات جاهلة ومتهالكة إنما معادية لأفكار الحريات والحقوق والعدالة، مجموعات صغيرة تلتقي في المقاهي الفاخرة ذات 15 دينارا لفنجان شاي ليبتون البريطاني المزيف، تعيد إنتاج برامج تلفزيون الزبالة Trash Tv كما تفشى في سنوات الفراغ الأمريكي منذ ثلاثين عاما: برامج الدموع والبكاء وتحويل الدعارة إلى قيمة أخلاقية والخيانات العاطفية إلى إشهار،

إيهام الناس بأن الشواذ وغريبي الأطوار هم مشغل رئيسي للمواطنة، فيما يستمر الإعلام العمومي في الاعتقاد بأن موظفي الدولة يملكون كل الحقائق التي لا تقبل النقاش، لقد وقع الإعلام الأمريكي في تلفزيون الزبالة زمن أزمة الفراغ القيمي تحت حكم ريغن البذيء، لكنه اخترع وطور صحافة الاستقصاء وحافظ على جوائز بوليتزر في جامعة كولمبيا لأفضل الأجناس الصحفية، مقالات أطاحت بحكومات وقوانين وأنظمة اجتماعية وأخرجت ملايين المواطنين إلى الفضاء العام وغيرت اتجاه السياسة، فيما تمثل برامج الزبالة الإعلامية أكثر من 80% من محتوى وسائل الإعلام التونسية، لو رصدنا جوائز بوليتزر في تونس لما فاز بها أحد، لغياب المترشحين.

ثم هاته الأفكار الجاهزة عن تصوير المواطن غبيا جاهلا للسخرية منه لكي يربح 100 دينار، مقابل غياب صناع الحياة اليوميين، غياب النضال اليومي من أجل البقاء في الأرياف والدواخل، غياب الأعمال الصحفية التي تعطي معنى لما يحدث لنا، نحن، 90% من الشعب التونسي الذين يعيشون خارج علب الإنتاج الإعلامي، لا نسمع صوتا لأحد منا، لقد آن لهذا النموذج الإعلامي الشاذ أن ينتهي، أن لا يجلس أحد في مجلس المحلل أو الكرونيكور إلا ومسيرته المهنية المختصة وعلاقته بالموضوع تسبق اسمه، آن الأوان لتمثل المشاغل الحقيقية لنا أكثر من 80% من محتوى الإعلام التونسي، نحن الذين نريد طرح الأسئلة الحقيقية،

من 2012 إلى اليوم، ازداد وضع الإعلام سوءا إلى درجة الإحباط، أراه بسبب فساد وتعفن الحلقة المباشرة المحيطة بالسلطة السياسية والمالية في مواضيع اهتمامها وطريقة تناولها، إنها تتعفن في الفلوس التي لا تجد ما تفعل بها، ولحاجة الوطن، وفق نظرية ابن خلدون في حلقات السلطة الثلاث إلى تجديد نفسها، أن تتقدم الآفاق إلى إنتاج إعلام يليق بالوطن وبالمرحلة التي نعيشها، الآفاق هي ملايين المواطنين وآلاف المثقفين والكفاءات مقابل بضع عشرات من إعلاميي الأزمة، أصحاب مؤسسات ومنشطين وكرانكة آكلي لحم من كل الموائد.

إنما، وبحذر الثعلب وواقعية مهنة الصحافة، أسأل: هل ثمة وطنيون مستعدون لتمويل إعلام بديل؟ تماما كما سألت في 2012، وهذه المرة، ليس من أجل تحقيق حلم الانتقال الديموقراطي، بل من أجل أن لا نتحول إلى شعب من المتحولين، إلى شعب حارق أو boat people، شعوب هاربة من نفسها ووطنها وتاريخها، لأنها لم تعد تجد فضاء عاما للحديث عن مشاكلها الحقيقية، لأن الفضاء العام يشغله الأغبياء والحمقى،

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات