السادة الأستاذة، أعطوني عددا

"تحاورت مع أخي المهندس الذي رفض أن يواصل العمل في ورشة أبي لأنه باش مهندس أدّ الدنيا وحاولت إقناعه بقيمة العمل..."،

قال لي أخي المهندس أنه منذ أول سنوات دراسته حرمه والداه من اللعب وفرضا عليه نظاما قاسيا من المراجعة والدروس الخصوصية لكي يكون الأول حتى وصل إلى مناظرة النموذجي دون أن تكون له طفولة ولا حياة لعب أو لهو أو تسيب وكان عليه أن ينام باكرا ويستيقظ باكرا لحفظ الدروس، ثم كان عليه أن يستمر في الحرمان والدراسة المكثفة والدروس الخصوصية المكلفة حتى بلغ الباكالوريا وقد حرمه والدي من الألعاب إلا نادرا في شهر ونصف من الصيف ومنعاه من امتلاك هاتف أصلا لكي يركز على دروسه وخوفا من أن تأخذه الألعاب المتفشية بين الشباب،

كانا يتفقدان غرفته في قلب الليل ما إذا كان يلهو بألعاب المراهقين في حاسوبه، قال له أبي مرة لقد أنفقنا عليك ثمن سيارة جديدة ودفعنا ثروة مقابل الدروس الخصوصية لكي تصبح متفوقا فلا تخيب أمالنا فيك، وافتك أخي مكانا في التوجيه إلى مدرسة تحضيرية للهندسة، قضى فيها عامين كان فيهما على حافة الجنون من كثرة ساعات الدروس والحفظ، ورغم مصاعبه الصحية التي أصبح يعاني منها مثل التوتر والعصبية والأرق وفقدان الشهية إلى أن بلغ وزنه ثلاثة وخمسين كيلوغراما، فقد أكمل ثلاث سنوات في المدرسة القومية للمهندسين، وقد اكتشفنا بعد أن تخرج أنه فعل كل ذلك فقط لتفادي إغضاب أبي لأنه كان يخاف منه أكثر من الحب وخوفا على أمه من غضب أبيه وما سيقوله الجيران الذين أصبح أولادهم مهندسين من السخرية منه ومن أمه وأبيه.

المهم أصبح أخي مهندسا وكان الثالث على دفعته، لكنه لم يجد شغلا وكل ما عرض عليه هي تربصات تدريب مقابل مائتين وخمسين دينارا شهريا من الحكومة وأربع مئة دينار من الشركة التي ستقبله وهو ما يكون في النهاية أقل من كلفة مصاريف التنقل والأكل والحد الأدنى للعيش لذلك لم يقبل بتلك العروض وظل حزينا في البيت مكتئبا، لا أحد منا عرف كيف تعلم التدخين ثم شرب الخمر وموبقات أخرى والاختلاط بالمنحرفين والشباب الذين يرغبون في الحرقة ويحفظون أغاني الراب التي تدعو إلى العبث والفوضى، وعندها، تفطن أبي إلى المشكل ودعاه إلى العمل معه في مستودع الميكانيك فلم يوافق.

دخلت إلى غرفته بعد منتصف النهار حيث وجدته شبه نائم، مستسلما للاكتئاب والحزن وقلت له إن الأجر أو نوعية العمل لا تصنع الرجال بل ما يريدون فعله لتحقيق أحلامهم وطموحاتهم وأن عليه أن يقبل بالعمل مع أبي إلى أن تتوفر له فرص أكبر،

قام من النوم وتكسل مثل الضبع ورائحة الصنان لمن لم يغتسل منذ أسابيع تفوح منه وقال لي: "بري الله يعطك نازلة أنت وقيمة العمل والفلوس والأخلاق الحميدة والرجال والدولة والوطن والدروس الخصوصية والتميز الدراسي وكل ما تريدين، ابعدوني، خلوني ناكل روحي إلى أن أجد حرقة"،

ولم أقدر على التواصل مع أخي المهندس إلى أن سرق مصوغ أمي كله وحرق إلى إيطاليا ونحن مازلنا ننتظر ما إذا كان ما يزال حيا، وعما إذا سيقدر على إيجاد حل لحياته،

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات