نحن وبورقيبة، هل كان مؤسسا؟ قلبي معبي وسع بالك معايا يا نور الدين يا صاحبي،

أنا سمعت عن الندوة الدولية بعنوان"بورقيبة المؤسّس" في بيت الحكمة وهي مؤسسة وطنية ينفق عليها من أموالنا، وفكرت في الذهاب إليها وقلت "يهرب بورقيبة من المؤرخين لكن وين ماش يمشي من ربي؟" مدفوعا بصورتين: الأولى وعمري ثمانية أعوام، صيف 1972 والزعيم بورقيبة يقدم لي جائزة في مدرسة سد وادي ملاق التي هجرها الفرنسيون بعد أن بنوا السد الجبار وحوّل بورقيبة بيوتهم الجميلة إلى قرية أطفال بورقيبة المنفيين خارج عواطف الأمومة والأبوة، ممن ليس لهم آباء، كان علينا أن ننتظر في قرية ملاق المعادية التي تعتبرنا "أهالي" (Indigènes) حتى العاشرة ليلا عندما استقام مجلس الزعيم، لقد بقي لي من تلك الذكرى مشاهد كثرة البوليسية والقوادين الذين دفعوا أبي بغطاء رأسه الضخم (كان مستبردا يسعل مختنقا بسجائره التي يفتلها بيديه) وافتكوني منه لكي يحملوني بين هواء وفضاء إلى الزعيم المتوج مثل ملك إفريقي وثني في أعلى مدارج مدخل القاعة الرياضية المغطاة التي بناها الفرنسيون لأبنائهم والتي تحولت فيما بعد إلى معمل ألماني للملابس الداخلية بمفعول قانون 1972، أتذكر الأضواء الساطعة مقارنة بريفنا الذي يرى الليل بضوء القازة، ويداه يا أبي؟ يدا الزعيم كانتا رقيقتي الملمس وطريتين مثل يدي فتاة عذراء، أيضا انتبهت إلى عينيه اللامعتين حيث يكمن سر وجاذبية السلطة،

الصورة الثانية وأنا أكتب "رسالة إلى السيد الرئيس" في "بيت ثمانية" في سجن الكاف المدني عام 1986، من أجل مظاهرة تلاميذ لا تستحق أكثر من صفعة أو طريحة مما تعودت أن آكله في كل المظاهرات السابقة في مدينة الكاف، ثم إني، "سيدي الرئيس، لم أحرق الجراية في مبيت معهد تاجروين الثانوي"، بوليسية المركز هم الذين ضربوني على ساقي بذنب ثور حتى أمضيت على اعترافات لم أقرأها، صحيح أني في تلك السن المبكرة، كنت أكره النظام وأحملك مسؤولية كل آثامه، إلإ أني وقتها لم أحرق الجراية ولم أحطم أي فص بلور،

ثمة صورة أخرى قد تثري صورة "بورقيبة المؤسس" في هذا الوطن الكئيب، كان عندي أقارب يسكنون "باب غدر" في مدينة الكاف، وهي قصة أخرى، وهو حي يطل على السور الشرقي لمدينة الكاف، وكانت فيه عين ماء جارية وأولياء صالحون وأساطير طريفة قبالة جبانة الشرفيين وما فيها من تاريخ وجامعها التي تتملكك فيه قشعريرة غامضة حتى إن دخلته لشرب الماء، افتك بورقيبة المكان لكي يبنى فيه قصره، المهم: كنا صغارا نمتطي السور ونمضي منخفضي القامة حتى نطل من عل على بورقيبة في قصره صباحا وننتظر، نراه يخرج متكاسلا بخطى بطيئة، يلبس روب دي شمبر بيضاء وشلاكة مماثلة، يجلس إلى طاولة مستديرة فوق العشب الأكثر اخضرارا من أي حقل قمح ثم يدركونه بكأس عصير، نحن نصرخ من وراء الأشجار العالية في الجهة الشرقية من السور: "يحيا بورقيبا"، ذلك كل ما نعرفه، ثم ننطلق هاربين، آخر نظرة نلقيها على الزعيم وهو يحيي أشباحنا بين أغصان الأشجار،

عند العاشرة، يخرج بورقيبة من قصره منحدرا إلى اليسار لا يرافقه سوى حارس وحيد كئيب بكسوة سوداء دائمة ونظارتين سوداوين، يخرجون له كرسيا عتيقا من حانوت الحجام في أول النهج ويبدأ من هناك بعصاه البنية في شراء الشبوك للمارة الذين يعرفهم واحدا واحدا منذ طفولته عندنا، يجلبون له قهوة بالحليب يشربها دون أي خوف من أن يسممه أحد أعدئه الكثيرين،

اشتغلت كثيرا على تاريخ الكاف والقصص التي وصلتني من محمد الجربي رحمه الله وغيره، كان بورقيبة قد قضى طفولته في مدينة الكاف مع أخيه الممرض محمود بورقيبة الذي أطلق اسمه على أول مستشفى في المدينة لأنه جلبه معه علاجا له من مرض الحساسية لاعتقاد أطباء ذلك الزمن أن رياح الصنوبر الحلبي تعالج حساسية التنفس، أيضا روى لي ثقاة أنه عرف زوجته وسيلة في مدينة الكاف وأنه هدم حيا كاملا في المدينة انتقاما ممن أفسدوا عليه لقاءاته السرية معها،

أنا بعدها كنت أكتب رسالة إلى السيد الرئيس، بصفتي أول تلميذ وقتها يتعرض للمحاكمة من أجل مظاهرة، كانت العادة أن يقتلنا البوليسية أو الحرس ضربا ثم يأتي أهلنا من شيوخ القبائل "يلونون وجوههم" ليمضوا على إخراجنا، قبل أن يطلق علينا "السيد الرئيس الزعيم" كلبه الشخصي الجنرال الشرير زين العابدين بن علي الذي قرر أن نحاكم، بصفتنا تلاميذا ولم أعد وحدي، بل صحبة عشرات من أشقياء هذا الوطن الكئيب من التلاميذ، البوليسية أبدعوا في تنفيذ القرار تنافسا بينهم وبين الحرس فيمن يرسل أكثر عدد منا إلى السجن مضرجين بدمائهم واعترافاتهم، السادة القضاة وقتها استجابوا لمحاكمة تلاميذ بؤساء فقراء لأن الأغنياء نجوا من أية ملاحقة بالرشوة ومن بعد تقلي "زعيم مؤسس؟"، لن أنسى أبدا تلميذا كان عمره 16 عاما يلبس شلاكة أمه البلاستيك الأكبر منه، كانت ساقاه بالدم من الفلقة ووجهه مهشم تماما، رفض مدير السجن قبوله على وضعه ذاك، ليس رأفة به، بل لأنه أصغر من أن يقضي ليلة في السجن دون أن "يأكلوه" صبيا طريا لقمة للوطيين وأولاد الحرام، علقه أعوان الحرس في بوابة السجن بالمينوت ورحلوا، كان لقصر قامته يتدلى في مقبض بوابة السجن مغميا عليه، أنقذته زوجة مدير السجن بأن سرقت المفاتيح من زوجها وفكت قيوده وجعلته يبيت في غرفة بناتها إلى الصباح وهي تضمد جراحه، أحيانا كنا نسمع دعاءها من فناء بيتها في طرف السجن بخراب الدولة والنظام العام وعمل زوجها عندما تسمع صرخات الألم مساءات الفلقة التي يشرف عليها بنفسه في بيت السيلون، ذلك التلميذ ذهبت إليه في بيته في أحدى قرى الشمال الغربي متوسلا أن يسمح لي بكتابة قصته، إلا أنه رفض تماما وأطردني، لأنه لا يحب أن أذكره بشيء مما حدث له حتى إن كان من أجل بناء مفهوم وطن جديد بعد 2012 "لا شيء تغير، الوطن الوحيد هو في مركز الحزس، بره شوفه"،

كل ذلك كان يحدث في زمن "الزعيم المؤسس"، وقتها كنت ريفيا ساذجا أعتقد أنه لا يعرف بما يحدث في وطنه الكئيب باسمه، وان حكمه الأبدي المطلق خلق حوله مجموعات من المتوحشين الذين كانوا مستعدين لاقتراف أسوأ الفظاعات لكي يبقوا في أماكن سلطتهم، بعد ذلك بأكثر من عشرة أعوام، عندما قرأت رواية "خريف البطريارق" فهمت كل شيء، عن العلاقة المرضية لمن هم في السلطة بدماء مواطنيهم، عادي،

بدأت بالكتابة إلى السيد الرئيس في شكل رسالة تظلم بسيطة من صفحتين على ورق وزاري مضاعف 5.5، لكنها طالت وكثرت فيها الاستطرادات لذلك حولتها إلى ما بقي من كراس الفلسفة (كنت في سنة الباكالوريا آداب منفيا من الكاف في مدينة تاجروين) التي جلبها لي أبي لكي استمر في الإعداد لامتحان الباكالوريا حيث لا أحد كان يصدق أن الإيقاف سيطول إلى ما بعد الامتحان، طالت القصة إلى تفريغ قلب، ثم تجاوزت كراس الفلسفة إلى بقية الكراسات، أصبحت قصة اسمها "رسالة إلى السيد الرئيس" أكتب فيها يوميات ما يحدث لنا، نحن الصغار الذين تورطنا في مجرد التظاهر فوجدنا أنفسنا محكومين، كل واحد منا، بخمسة أعوام سجنا ثم مشردين بين السجون الوطنين من سجني الناظور وبرج الرومي الرهيب في بنزرت إلى سجن القصرين المركزي وغيره حتى حربوب في أقاصي الجنوب، كان عليّ أن أستغل كل مواهب السجن لمرواغة الحراس أو بموافقتهم لإخفاء رسالتي إلى الزعيم أو إعادة كتابتها اعتمادا على الذاكرة فقط، آخر ما يبقى للإنسان وهو يقاوم الجنون، التي تحولت إلى قصة سرية عن السجن وعن "نحن" عشرات أو آلاف المساجين من أجل المظاهرات منذ أخرجتنا الدولة من أراضينا التاريخية بالتأميم وأطلقتنا إلى النزوح والتمرد وأسئلتنا اليومية عن ظلم من هم في الدولة وخصوصا عن دعاء الشر الذي يتصاعد من القلب إلى السماء من السجون والمنافي،

وكان لدي دائما سؤال: هل يعرف الزعيم بورقيبة بما يحدث لنا؟ نحن أطفال الوطن، أحباب الله؟ ومن هناك تحول عنوان النص إلى كتاب "أحباب الله"،

قرأت كثيرا، كل ما هو غير متاح في الوطن يمكن الحصول عليه في السجن مثل الكتب، على مدى ثلاث سنوات من السجن بين الكاف والقصرين، كان عندي وقت لالتهام مكتبة الكنغرس حيث كان يبدو اليوم بطول أسبوع والعام بعشرة أعوام لكي أفهم، وبعد السجن، قرأت أيضا كثيرا، عن علاقة بورقيبة بالقمع، "إلى أي مدى كان بورقيبة يمضي في تصفية خصومه؟"،

هل كان بورقيبة يفكر في تأسيس مجتمع حر؟ هل كان بورقيبة يؤمن بالاختلاف أو المعارضة أو الفكر؟ أي علاقة لبورقيبة بالجهوية؟ أي مفهوم للدولة كان ينفذه؟

روى لي أحد ولاة الكاف السابقين، التقيته في مدينة جربة في آخر عمره: "على حياة أو موت، انقل عني شهادة: جماعة بورقيبة كانوا يطلبون من ولاة الشمال الغربي أن يوقفوا حساب المجالس الجهوية في الشمال الغربي في جوان لكي يحملوها إليه في عيد ميلاده"، لا أحد يحب أن يتحدث عن بورقيبة بموضوعية، هم لم يشفوا من عبادة بورقيبة، ولا أنا شفيت من جراح دولته،

لقد ذهب بورقيبة إلى الله حيث لا يمكن تزييف الحقائق ولا "التحصل معناه" تسبقه دماء الآلاف من ضحاياه، حيث الجريمة الأشد هي القتل تحت التعذيب،

كان عليّ أنا، لن أسامحه، مسؤولا أولا عن تعذيب التلاميذ وسجنهم، كما لا أصدق أن يسامحه أبناء آلاف الضحايا الذين تم قتلهم من أجل السلطة ووهم بناء الدولة، على الشبهة وبناء على تقارير القوادين الذين أصبحوا حكاما وأثرياء وصناع قرار ورأي، إذن، بورقيبة أسس لماذا؟ لدولة الطغيان؟ لشبكات القوادين والوشاة ومليشيا لجان اليقظة المسلحة بالعصي؟ لربط الدولة والحياة بالرخص والريع وانتهاك الحقوق؟ لدولة يحتاج فيها الإنسان إلى رخصة من وزير الداخلية والمخابرات ومليشيا الحزب لكي يحصل على رخصة مقهى؟ هل هذا اسمه تأسيس تجتمع لأجله بيت الحكمة؟

أن تكون هناك ندوة حول "بورقيبة المؤسس" عادي، أما أن يأتي جامعي باحث مسؤول ويؤكد: "أنّ الدرس البورقيبي يُستخلص منه أن المحافظة على الدولة يكون من خلال الإعتماد على الشباب وبالإصلاحات الكبرى الغائبة حاليا عن الساحة السياسية التونسية التي تشهد اليوم إصلاحات طفيفة خصوصا على مستوى أهم المكتسبات البورقيبية المتمثلة في الصحة والتعليم والسكن الاجتماعي"، آه، عمي الراجل؟ والكرامة البشرية؟ وآلاف المساجين والقتلى تحت التعذيب باسم السلطة؟ لا؟ أنت باحث في أي شيء؟ في مديح الطغيان؟ ليس هناك أي درس يمكنك استخلاصه؟ لم تفهم شيئا؟ لا؟

اللطف يا ربي،

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات