منذ سنوات لم يعد يستهويني أن أتابع البرامج التلفزية الحوارية السياسية. ببساطة لأنني أقرأ لكل الوجوه التي تتم استضافتها في التلفزات، أي أنني أعرف أفكار الضيوف/النشطاء. وصحتي، وأشياء أخرى في رأسي، لا تسمح لي بالتسمّر أمام التلفزة لأسمع كلاما أعرفه.
البارحة كسرت القاعدة واستمعت بتركيز إلى حوار "أستاذ علم الاجتماع السياسي" المولدي القسومي على قناة الزيتونة.
أولا : لأنني احترمت جرأته على قبول الظهور في قناة مصنّفة(حقا أو باطلا أمر آخر) إسلامية نهضوية. ويكفي عندي أن يُقدم يساري تونسي على هذه الخطوة لأعتبره شجاعا. فعداء اليسار التونسي للإسلاميين هو عداء نفسي وجداني و" عصبية قبَليّة" أكثر منه خصومة فكرية سياسية برامجية.
ثانيا : لأنني أتابع الرجل منذ سنوات وفكرتي عنه أنه علامة نوعية في مشهد فكري/سياسي وأكاديمي تونسي فقير وبائس. القسومي جامعي منتج يمتلك أدوات اختصاصه باقتدار، غير كسول بل غزير الإنتاج الكتابي. ومثقف منخرط بجدية لافتة في قضايا مجتمعه إلى حد أنه نجح في أن ينحت لنفسه مكانة/شخصية إعلامية محترمة.
وأخيرا : لأنه يساري. وهو الآن في رأيي أبرز مثقف يساري تونسي وسط يسار كفّ، منذ رحيل شكري بلعيد، عن إنتاج مثقفين في حجم الفكر السياسي الماركسي المشعّ عالميا في كل المجتمعات تقريبا.
* خلاصة الحوار أن الرجل يتحرك ضمن رؤية فكرية وسياسية مستقبلية قوامها ضرورة خلق تنافذ حيوي استراتيجي بين كل مدارس السياسة في تونس لإنقاذ المجتمع وتهيئته ليصنع دولته الحقيقية. دون ذلك هذا المجتمع مهدد بالتحلل.
وهو يرى نفسه مؤهلا لأن يلعب دور الجسر الواصل بين كل فرقاء السياسة. وأنا أيضا أراه مؤهلا لذلك.
* ما قرأته من تفاعلات بعض الإسلاميين، أقول البعض، مع حوار القسومي محبط. أهم اعتراض تم تداوله(أظنه انطلق من تدوينة للأخ سامي براهم) كان لوما شديدا للقسومي على عدم اطلاعه على لوائح المؤتمر العاشر للنهضة التي تم التنصيص فيها على تجاوز الرؤية الفكرية والبيان التأسيسي للحركة. قالوا له لو كنت مطلعا لما طالبت النهضة بمراجعة الرؤية والبيان. هذا اللوم تحول إلى سخرية وتشكيك في مؤهلات القسومى الفكرية.
وهنا لدي توضيح/شهادة: أنا مشارك في المؤتمر العاشر. وكل من شارك يعرف المناخ المتفجر الذي انعقد فيه المؤتمر. المؤتمر كان مؤتمر صراعات وانقسامات كادت تنهي النهضة. لذلك لم يكن هناك أي نقاش جدي للوائح. وأتحدى أي مؤتمِر أن ينفي ما أقول. اللوائح ظلّت "شبه معلّقة" وتم التصويت عليها كما صاغتها اللجنة المضمونية على أن يتمّ "تحريرها نهائيا" بعد المؤتمر. (وخاصة لائحة تقييم تجربة الحكم.. فضلا عن التقييم الشامل). ظلت اللوائح محجوبة أشهرا طويلة بعد المؤتمر ولم تُنشر. بعد ذلك يبدو أنها نشرت على نطاق ضيق جدا (توزع بالعلاقات) ولم تتح للجمهور. ولا أدري هل تم نشرها على النات أم لا، أم نشرت وتم سحبها (!). وأن تكون نوقشت في مركز التميمي لا يعني أنها أتيحت للجمهور.
يعني ببساطة لا يمكن لوم القسومي على عدم اطلاعه على لوائح أريد لها أن تكون "شبه سرية".
أخيرا.. نحتاج أكثر من قسومي واحد لتحريك تاريخنا الراكد. لكنني متأكد أنه نموذج مرفوض من كل "عصبيات السياسة" التونسية.
عصبيات البؤس. تبا.