بروفيل سياسي يكاد يكون فريدا في بلاد فقيرة من الرموز. طالب يساري نشيط جدا نشأ سياسيا على فكرة التناقض الوجودي مع النظام الحاكم ومع التيار الإسلامي بآعتبارهما، طبق الأدبيات الماركسية، وجهان لعملة واحدة: رجعية سياسية ورجعية دينية تمثلان مصلحة طبقية رأسمالية واحدة.
بعد الثورة وسقوط نظام بن علي استمرّ في الفعل السياسي بنفس الخلفية، وآعتبر أن معركته الأساسية هي ضد حركة النهضة (وكل محيطها الايديولوجي). لكن خطابه السياسي أخذ تدريجيا صبغة ديمقراطية ليبرالية حقوقية بحكم تخصصه الأكاديمي كأستاذ جامعي للقانون الدستوري.
لذلك وجدناه في آخر انتخابات رئاسية قبل الانقلاب منخرطا مع محمد عبو، أي بعيدا نسبيا عن أصوله اليسارية. وكان ذلك أول تحوّل سياسي نوعي في مسيرته.
التحول الأكبر كان بعد الانقلاب مباشرة. كان من القيادات المؤسسة لأول مبادرة سياسية واجهت الانقلاب وهي "مواطنون ضد الانقلاب". وكان يعلم أن الجسم السياسي للمبادرة ليس إلا نشطاء التيار الإسلامي. بل أنه كان واعيا بأن النهضة هي المتضرر الأكبر المباشر من سقوط تجربة الانتقال الديمقراطي، وأن كل من سيواجه الانقلاب سيُحسب على النهضة! ورغم تعرّضه لحملة تشكيك في صدق معارضته للانقلاب ومبدئية اقترابه من النهضة من بعض الإسلاميين، تمسك بالمبادرة.. وكان واعيا بتداعيات التصدي لانقلاب!!
فكانت محطة مواطنون ضد الانقلاب اكتمالا لتحوله السياسي التدريجي الهادئ من "اليسارية الإيديولوجية المدرسية" إلى "النضالية الديمقراطية الواقعية".
من هذه الزاوية أرى جوهر بن مبارك توليفة ديمقراطية نضالية فريدة من ناحية أصولها اليسارية وأفقها الديمقراطي.
الآن.. بعد هذه المسيرة الجديرة بكل الاحترام، وبعد أن تم اعتقاله بعد أن حاول بلورة مشروع حوار وطني معارض واسع بديلا عن الانقلاب، وهو يخوض إضراب جوع معرّضا نفسه للموت دفاعا عن "الديمقراطية كقيمة إنسانية"لا مستقبل لمجتمعنا من دونها، أراه يصير الرمز السياسي الأول لبلادنا التائهة.
كل التحية والمحبة جوهر العزيز.