أواخر سنة 1991، وعلى امتداد ثلاثة أشهر، كنت مع آلاف المعتقلين الإسلاميين في داخلية بن علي.. مررت بمركزيْ إيقاف.. ثم بقبو الداخلية الشهير، القبو الذي يشعرك أن العالم غير موجود فعلا، القبو المخنوق برائحة أشلاء الأجساد النازفة والمتقيّحة المحتضرة.. والمستعدة للموت في كل لحظة.
ومع ذلك، كان المعتقلون يواجهون توحّش الجلاّدين وفظاعة التهم الموجهة إليهم في التحقيق، والتي تصل عقوبتها إلى الإعدام، بالازدراء والاستهانة.. وبطمأنينة لامبالية! لماذا ؟
السبب الرئيسي (إلى جانب سببين آخريْن لا يسمح السياق بذكرهما) أنه في تلك الأثناء كانت تجري الانتخابات التشريعية الشهيرة في الجزائر، وكان الإسلاميون الذين حققوا فوزا ساحقا في الانتخابات البلدية منذ سنة في طريقهم إلى فوز ساحق جديد. فكان أغلب الإخوة معي في الزنزانة يضحكون من التهم، بل وفيهم من يُمضي على كل ما يكتبه المحقق من دون تردد وعن طواعية، لأنهم كانوا متأكدين أن الجزائر التي ستصبح إسلامية قريبا جدا لن تتركهم يمضون بقية أعمارهم في السجون! فكانوا يتهامسون بآخر أخبار انتخابات الجزائر ويتطامنون بقرب الفرج!
وأنا، يشهد الله والإخوة الذين كانوا معي آنذاك، كنت أقول لهم بكل هدوء بساطة: سيتمّ تزوير الانتخابات في الجزائر.
وحين صدرت النتائج وفاز الإسلاميون.. قلت لهم سيقع انقلاب عسكري يلغي النتائج.. والانتخابات تماما! وستصدر في شأننا أحكام ثقيلة.. وسنقضّي أحكامنا السجنية كاملة!
طبعا كان الإخوة الإسلاميون، (الغارقون في الرؤى والبشارات الساذجة الحمقاء) يغضبون مني جدا ويتهمونني بالتشاؤم و"الجفاف العاطفي"، عدا قلة قليلة منهم طبعا.
ولم أكن أنجّم طبعا.. بل حجّتي التي كنت واثقا منها، وهي التي تهمنا في السياق التونسي الحالي، أن النظام العالمي، وفرنسا تحديدا حينها، مستحيل أن يسمحا بسقوط النظام الجزائري وصعود حكم إسلامي مهما كان الثمن. وأن الأوليغارشيا العسكرية الجزائرية الفاسدة التي شكلت شبكة كبرى من المصالح المرتبطة بالطاقة لن تسلّم البلاد لا للإسلاميين ولا لأي طرف آخر ولا للديمقراطية! وحين حدث الانقلاب يوم 12 جانفي 1991، لم يصدّق المساجين الأمر، وظلّوا طوال سنوات السجن يأملون في حدث "وشيك" يعيد الأمور إلى نصابها!!!
في تونس اليوم.. صدرت منذ أيام أحكام ثقيلة بالسجن في حق كثير من السياسيين من مختلف عائلات السياسة، فقابلها الكثير من "محللي السياسة" بنوع من الاستهانة.. بدعوى أنها أحكام عبثية وأن المحكومين لن يقضّوا في السجون المدد الطويلة التي صدرت ضدهم وأنهم سيغادرون السجن قريبا.. وأن نظام سعيّد فاقد لكل شروط الاستمرار!
وهذا في رأيي حديث فارغ لا سند له من العقل والواقع، بل مجرّد أمنيات ساذجة. بوضوح مصالح الغرب في المجال العربي تقتضي وجود أنظمة قمعية لا علاقة لها بالديمقراطية والوطنية.
الغرب معادٍ جذريا للديمقراطية في بلداننا. ومن يظن أن الاتحاد الأوروبي مثلا منشغل بوضع حقوق الإنسان ودولة القانون في أي دولة عربية.. واهم.. وأحمق أيضا للأسف!
توجد في الغرب منظمات مدنية حقوقية نعم.. ومزعجة لحكوماتها أحيانا نعم، لكن القرار السياسي الاستراتيجي الغربي تحكمه مصالح استعمارية ثابتة في بلداننا تقتضي منع الديمقراطية استراتيجيا، لأنها يمكن، نظريا طبعا، أن تفرز حكما وطنيا قد ينجز استقلالا حقيقيا عن الغرب.
ليس كالأنظمة الاستبدادية ضامنا لمصالح الغرب. أنظمة هشة داخليا تستمد قوتها من دعم غربي "محسوب" و"ذكي" ومشروط.. يحافظ على وجودها الضعيف القابل للتوجيه والتحكّم.. والتعديل الدائم!
لذلك.. من يردد أن الغرب غاضب من نظام سعيّد وأنه حريص على تغييره.. ليس فقط واهما بل يساهم في تغذية صورة مزيفة عن النظام الحالي مفادها أنه نظام معادٍ جوهريا للاستعمار!
النظام الحالي في تونس لا يمثل أي إزعاج لمراكز النفوذ الدولي..، بل أن دولة استعمارية مثل إيطاليا (والتي لم تفقد جوهرها الفاشي رغم كل شيء) استثمرت استراتيجيا في الشكل الحالي للنظام. أقول جيدا الشكل لا الشخص. يعني الحكم الفردي وقتل السياسة والعمل الجمعياتي المدني المساند لحقوق المهاجرين، لا شخص سعيّد الذي لا يعنيها مطلقا ولا يزعجها أن تغذّي تهويماته السياسوية من قبيل الحكم القاعدي والشركات الأمية! والجميع يعرف أن إيطاليا هي الممثل الحصري للولايات المتحدة في أوروبا.. والمنطقة...!
أما الجزائر فهي النقيض الوجودي لفكرة الديمقراطية والحكم المدني ودولة القانون. يعني بالنسبة إليها منع قيام ديمقراطية حقيقية في تونس مسألة أمن قومي وجودي.
المحصلة.. أن يأمل سجين مظلوم ومغبون ومقهور في "مستقبل وردي جميل" وفي "حتمية الفرج" وفي "حتمية انتصار الحق على الباطل" ، فذاك من صميم حقه الوجداني العاطفي الإنساني، أما أن يردد "سياسي محترف" هذا الكلام الأبله، فهو نقص في الفهم وخلل في العقل يمنعه من فهم الواقع الصلب.. ويحوّله إلى مروّج لحبوب الهلوسة السياسية!
تبا