في الحياة، هناك وجوه لا غنى عنها، إن لم تصادفها في حياتك، ولم تعِ قيمتها واستثنائيتها، ستعيش ناقص معنى، مبتور الفكرة. وجه منها يغنيك عن ألف وجه، لأنه خلاصة مركّزة لكلّ ما هو ضروري لتعي إنسانيتك.
وجه عمّ عز الدين الحزقي أحد هذه الوجوه. وجه ضروري لحياتنا.
منذ قليل شاهدت الفيديو الذي تحدث فيه عم عز الدين عن برنامجه هذا اليوم. استيقظ باكرا ليُعدّ "قفة السجن" لزيارة ابنه جوهر المعتقل. ولمن لا يعرف يوم قفة السجن لا بأس أن يبذل جهدا صغيرا لتخيّل شيخ ثمانيني يطبخ وجبات مختلفة يعرف أن ابنه السجين المحروم من حياته العادية يشتهيها ويحتاجها أيضا ليقاوم ظروف السجن المنهكة للجسد وللروح. وفي القفة الملابس النظيفة والمعطّرة يحتاجها السجين ليشمّ رائحة "الحرية النظيفة" وهو المحاصر داخل السجن بروائح مهينة في غرف مكتظّة بمساجين متعرّقين لا يستطيعون الاستحمام لأن الغرف لا يصلها الماء خلال الصيف إلا لساعات قليلة في اليوم، بل أن تصريف الفضلات البشرية لمئات المساجين في مرحاض واحد داخل الغرفة يصبح ترفا وامتيازا لا يحصل داخل كل غرف السجن!
عم عز الدين يعرف كل هذا لأنه دخل السجن منذ السبعينات. لذلك يحرص على إعداد قفة ابنه جوهر كجزء من وعيه السياسي لا فقط كواجب أبوي.
وفي طريقه إلى السجن، احتار عم عز الدين بين الإسراع بأخذ القفة إلى جوهر الذي يعلم أنه في انتظارها، وبين أن يتوقف في باب بنات، لا ليتبضّع أو يشرب قهوة في القصبة! بل ليحضر محاكمة ابنته دليلة المحالة بتهمة جنائية بعد ظهور إذاعي مع برهان بسيس!
قال أنه شعر بتمزّق بين المهمّتين، وتمنى لو أنه يستطيع أن ينقسم إلى اثنين ليحمل قفة جوهر ويكون إلى جانب دليلة.. في نفس الوقت!!!
عم عز الدين دخل السجن من أجل أفكاره وهو شاب، وها هو الآن، في الثانية والثمانين من عمره، يزور ابنا في السجن، ويحضر محاكمة ابنة تقف على عتبة السجن!
لكنه، رغم الوجع والمأساة، يتحدث بوعي عجيب. وعي يثبت أن عم عز الدين هو وجه من الوجوه التي نحتاجها في حياتنا لنستوفي إنسانيتنا.
عن نفسي.. أنظر إلى عم عز الدين على أنه الثمرة التونسية الأنضج للإيديولوجيا المجرِّبة. هو عندي خلاصة كل التجارب الايديولوجية.. أو هو الممكن السياسي/الفكري بعد الايديولوجيا. ثمانيني ديمقراطي حقوقي حرّيّاتي (لا ليبرالي). وأنت تسمعه لن تعرف إن كان الذي أمامك يساري أم إسلامي أم قومي! هو كل هؤلاء.. ولا أحد منهم في نفس الوقت!
عم عز الدين هو التجسيد الحيّ للفكرة/البرنامج/البديل السياسي التونسي الذي صرت أراه ضرورة تاريخية لإنقاذ الاجتماع التونسي: الإيمان بقداسة الحرية والحقوق الإنسانية الفردية والعامة، والنزاهة الأخلاقية التي تعتبر أن كل مظلوم هو قضيتنا الخاصة.
وبكل وضوح.. هذا النموذج يتناقض جوهريا مع كل النماذج الايديولوجية المجرّبة تونسيا!
لذلك.. أرى أن نموذج عم عز الدين، رغم أنه متجسّد أمامنا وواقعي جدا، يظل، تونسيا، وفي الأفق المنظور، مستحيلا جدا!
تبا.