بين الانقلاب والاستعمار

تصريحات وزير الدفاع الأمريكي أمس حول تونس حدث كبير في تاريخنا الحديث. أهم ما قاله : تونس تشهد "تآكلا للديمقراطية" و "حلمها في تكريس حكم ذاتي مستقل بات مرة أخرى في خطر نتيجة صراعات بين داعمي الديمقراطية والحرية وسيادة القانون وقوى الاستبداد والفوضى والفساد".

قال أيضا أيضا "العديد من الدول في افريقيا ومنها تونس تشهد تآكلا للديمقراطية …في جميع أنحاء إفريقيا يقاتل أولئك الذين يدعمون الديمقراطية والحرية وسيادة القانون قوى الاستبداد والفوضى والفساد".

و"يمكننا أن نشعر بتلك الرياح المعاكسة في تونس التي ألهم شعبها العالم بمطالبه الديمقراطية… اليوم أصبح حلم تونس بالحكم الذاتي في خطر مرة أخرى...

لكن الولايات المتحدة ملتزمة بدعم أصدقائنا في تونس وفي إفريقيا الذين يحاولون تشكيل ديمقراطيات منفتحة وخاضعة للمساءلة ".

"في أماكن أخرى من إفريقيا نرى تهديدات أخرى للديمقراطية …بعض القادة يقمعون الحريات المدنية وينغمسون في الفساد أو يخنقون إرادة الشعب وقد أطاحت بعض الجيوش الأفريقية بحكومات مدنية لنكن واضحين الجيش موجود لخدمة شعبه وليس العكس".

التعليق :

هذه التصريحات الثقيلة والنوعية والمباشرة اعتبرها البعض مجرد تهويش كلامي ديبلوماسي أمريكي لإتاحة مزيد من الوقت والغموض للانقلاب حتى يرسّخ أركانه أكثر وسط مناخ شعبوي يمثل العداء لأمريكا أحد شروطه.

لست مع هذا الرأي مطلقا. لأن مؤشرات الاعتراض الأمريكي والفرنسي على الانقلاب تتضافر وتتصاعد منذ مدة. بل أن تصريح وزير الدفاع الأمريكي غير مسبوق في قوته ووضوحه. تصريح يكاد يكون إعلان حرب ضد سعيد وأمر للجيش التونسي بالتحرك لإزاحته.

التصريح غادر منطقة الدبلوماسية بشكل عارٍ. لماذا.. ؟

أعود إلى قراءتي الأولى للانقلاب : قرار الانقلاب اتخذته فرنسا لأنها صاحبة المصلحة المباشرة حينها فيه.. تم طردها من ليبيا من طرف تركيا.. وكان عليها منع تركيا من استكمال هيمنتها على تونس وهي التي كانت في طريق سياسي مفتوح لفعل ذلك عبر حليفتها النهضة.. فرنسا ذات الحضور الميداني الأكبر في تونس تمتلك أدوات الانقلاب.. وأخذت الضوء الأخضر من أمريكا.. التي أرجّح أنها أقنعت تركيا بالانسحاب من تونس في سياق تسوية إقليمية دقيقة مع تركيا التي كانت بصدد العودة إلى مصر والخليج.

أرجّح أن أدوات التنفيذ (يمكن تخيل التفاصيل) كانت مخترقة روسيّا وإيرانيا ( يمكن المقارنة مع الدور الروسي في تصعيد ترامب).

هل خدعت روسيا وإيران فرنسا وأمريكا..؟

نعم وعادي... ما يحدث أمامنا الآن في مالي وبوركينا فاسو من اختراق روسي وطرد لفرنسا يؤكد أن الأمر ممكن جدا.

لذلك.. حاولت فرنسا استعادة انقلابها لكنها فشلت. وصعّدت لهجتها ضد سعيّد منذ طرد عكاشة من القصر. وكانت أمريكا تساعدها في الأثناء بمنع التمويل السعودي والإماراتي أساسا.. قبل أن يتم تفعيل سلاح المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي كان يماطل ويضغط في انتظار قرار ما.. هذا القرار هو الذي أعلنه وزير الدفاع الأمريكي أمس ومفاده تكفّل أمريكا بنفسها بأمر استعادة الانقلاب من يد روسيا وإيران.

هل من حق معارضي الانقلاب الاحتفاء بالقرار الأمريكي..؟

طبعا لا. أمريكا لا تؤمن بالديمقراطية. وهي كفيلة أبشع نظام عنصري استيطاني همجي في فلسطين المحتلة. وهي راعية الانقلابات المعادية للشعوب في كل العالم.

من البديهي أنها تعادي انقلاب تونس لا حبا في الديمقراطية، بل لاعتبارات استراتيجية تقتضيها مصالحها.

هل معنى ذلك أن نساند الانقلاب ضد التدخل الأمريكي السافر في شؤووننا.. ؟

لا يمكن لعاقل أن يساند انقلابا على ديمقراطية مهما كانت عيوبها. فضلا عن أنه انقلاب فيه رائحة أنظمة مستبدة ظلامية همجية لا تؤمن بالحقوق الأساسية للإنسان. وهي نماذج استعمارية لا تقل بشاعة عن الهمجية الأمريكية.

لهذا.. لا يمكن بمنطق الأولويات الوقوف مع الانقلاب باسم الوطنية تقديما لضرورة دحر أمريكا ثم التفرغ لتسوية خلافاتنا الداخلية تونسيا.

الانقلاب ليس تونسيا. إذن.. لا خيار إلا البحث عن جبهة وطنية صلبة مقاومة للانقلاب والاستعمار معا. الأمر شبه خرافي نعم.

لكن لا خيار.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات