بين مشروع لم ينضج وترفٍ فكري نطاقُه محدود؟

Photo

على ما أذكر، يتمّ انتخاب المجالس المحلية مباشرةً، ثمّ تُنتخب تمثيلياتٌ في المستوى الثاني بطريقة غير مباشرة، ثم التي تليها نحو المستوى الوطني. ويتولّى هذا الاخير، صاحب السلطة المركزية تقبّل البرامج الاقتصادية والاصلاحات الاجتماعية والمشاريع والمبادرات المُعلنة من المحليّات تجسيدًا "لإرادة وسُلطة االشعب " وهي ما اصْطُلح على تسميتها في الادبيات الماركسية بــ "دكتاتورية البروليتارية" وهي المرحلة الانتقالية التي يتم خلالها تحقيق ملكية الدولة لوسائل الانتاج.

وعلى ضوء قيود الموازنة المركزية يتمّ التعديلُ في توزيعها على المحليات التي تتضمّن المناطق (في الصين) أو القطاعات الانتاجية (في روسيا). ثمّ يُنتظر الردُّ من المحليّات حسب التسلسل في التمثيليات_المحلية_الوسيطة". وهكذا دواليك الى أن تلتقي الميزانيات المُعدّلة من المحليات والمُعدلة من المركز.

في تونس، البلد ذي التشكيلة السياسية الناشطة في حقبة انتقال نحو "ديموقراطية ليبرالية"، والمتّصف بهشاشة آلة الإنتاج وتصدّع الاقتصاد الكُلّي، وهشاشة المؤسّسات و التفاوت_في_الوعي تجاه الواقع الاجتماعي والاقتصادي وبالتالي السياسي، لا أعتقد امكانية وضع منوال الحوكمة أعلاه إلاّ :

(1)- من منطلقٍ ينفي وعي "الديموقراطية الليبرالية" و

(2)- أن تنشط الأحزاب السياسية خارج "الوعي البورجوازي"– بمعنى المصطلح الخاضع لمنطق ربحية رأس المال على حساب العدالة في التوزيع (يحتاج الى تفصيل)، او ان تضمحل. ولذلك كان في التجارب المقارنة لزاما أن تُعوَّضَ الهيكلة الحزبية للعمل السياسي بجهازٍ وحيد، يستمدُّ شرعيته من الوعي_المُعمَّم لدى السّواد الأعظم من الناس وبالتالي من الدولة، ويحتكر مراقبة التنظيم الهرمي للحوكمة وللعنف ولآليات التوزيع.

إلاّ أنّ تونس برلمانها الحالي قائم دستوريا على أحزاب سياسية، لا أفراد ذوي الوعي المتفاوت بالانتماء الطبقي. لذلك، يجرّ منطق إدارة الشأن العام هذا الى ضرورة تهميش تنظّم المشهد السياسي القائم على أحزاب "الديموقراطية الليبرالية" لفائدة تنظُّمٍ بديلٍ قائمٍ على الأشخاص ومحميٍّ من قبل الدولة!

وترويجاً لذلك، يتمّ :

(1)- تضخيم فشل البرلمانيات "البورجوازية" و

(2)- التركيز على معاناة السّواد الأعظم الذين لم يستفيدوا من الانتقال الديموقراطي في معيشتهم اليومية، و

(3)- اللّجوء الى الاطروحات الاجتماعية والانماط التعبيرية عند الحديث عن الاقتصاد، و

(4)- التلويح بفشل المنظومة الاقتصادية عند الحديث عن أزمات المجتمع والافراد، و

(5)- تقليص أو تأجيل الحديث عن البُعد الثقافي (بمعنى نمط السّلوك المؤسّس للقيم الاجتماعية والمعتقدات والعادات والتقاليد) وحوصلتها في "الفضاء الخاص" بدون تعريف الفضاء العام الذي أصبح جزءً منه!

لقد اثبت نظام الحوكمة أعلاه فشلَه في العالم حتى ولو قبِل صُنّاعُه في البداية بوجود "بعض الأنشطة الرأسمالية الخاصّة والمظاهر "البورجوازية" التي يمكن أن تلعب دور تكييف العرض والطلب ودعم الدولة في مرحلة الانتقال نحو "اضمحلال الدّولة"، حيث تتم التنشئة الاجتماعية لوسائل الإنتاج، أو تعميمها.

فكما ذهبت الصين الى الانخراط في منظومة رأس المال العالمي ومحددات انتعاشه القائمة على منطق السوق بإحداثها أكثر من مائة وعشرين منطقة حرة وببرامجها التنموية المشجعة للمبادرة الفردية، كما قلّصت من نفوذ جهاز المراقبة الذي انغمس في الفساد المالي والإداري، فقد همّشت روسيا –من جانبها- وزن المجالس المحلية (مجالس السّوفيات) وأقامت المعارض التسويقية والشراكات الاقتصادية الاستراتيجية الخاضعة لمنطق السوق.

وفق المرجعية النظرية لهذا النظام، لا يمكن إرساؤه الا عندما تتجاوز القوى الإنتاجيةُ العلاقاتِ الاجتماعية للإنتاج، (يحتاج الى تفصيل) وهذا يُعتبر جمودا فكريا لم يأخذ بالاعتبار الظواهر الاقتصادية المُستحدثة في القرن الواحد والعشرين والتي لم تتسنّ رؤيتها في نهاية القرن التاسع عشر حين وضع أسس هذه النظرية.

يصعب كذلك إرساء هذا التوجه حاليا في تونس إلاّ بالمزج الثلاثي بين:

-(أ)- وعي الأشخاص في المحليات، و

-(ب)- تمازج البُعديْن الجغرافي والقطاعي –الذي لم يُنجز بنجاح في كل التجارب العالمية الاشتراكية، وهو مُعقّد جدا حتى من وجهة نظر اقتصاد السوق، و

-(ت)- مفتاح توزيع للثروة ومصادر تكاثرها تستجيب الى متطلبات "حكم الاشخاص المنفردة"، مما يفرض إعادة النظر هيكليا في نوعية المؤسسات، لا فقط داخل أجهزة الدولة بل وكذلك صُلب المجتمع.

فهل يذهب أتباع قيس سعيد قُدُما نحو هذا المنحى؟ وهل سيتحمّل التونسيون التكلفة الاجتماعية والاقتصادية لذلك؟ وهل ستبقى مجموعات الضغط مكتوفة الايدي؟ أم ستكون الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك مبادرات تشريعية واستفتاءات متتالية تحت انظار أحزاب سياسية "بورجوازية" لها مدّ شعبي لا يُستهان به؟ أم قد تكون فكرة "المشروع" غير ناضجة وقد تحتاج الى تحديث ورويّة والاطلاع أوسع.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات