باختزال شديد

يشكّل كتاب التيمومي "كيف أصبح التونسيون تونسيين"عملًا زاخرًا في توثيقه لنشأة الدولة التونسية الحديثة، يُروى بأسلوب سردي غني بالشهادات والمراجع. إلا أن متعة القراءة سرعان ما تتضاءل أمام الإطالة غير الضرورية في بعض الفصول، وتفاصيل دقيقة تُثقِل النص دون أن تجد لها أثرًا في التحليل أو الخلاصات، ما يُضعف من تماسك الطرح العام. وانطلاقًا من أهمية سؤال الهوية في فهم "التونسي"، أقدّم هنا مجموعة من الملاحظات لا تستلزم اختصاصًا دقيقًا في علم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا، بل تنبع من حسّ علمي-منهجي تجاه منهج الكتاب وخياراته المفاهيمية.

إن أبرز ما يُضعف البناء النظري للكتاب هو غياب إطار لمرجعية نظرية تاريخية صارمة تؤطّر السرد. فهذا النقص يتجلّى في عجزه (أي الكتاب) عن تحويل غزارة الوقائع التي يعرضها إلى مسار تطوري واضح لديناميكيات المجتمع التونسي. كما أن الكتاب يفتقر إلى عمود فقري مفاهيمي: فلا يُقدّم تعريفًا صريحًا لمفهوم الهوية، بل يُحيط بها بحذر مفرط، متجنّبًا "الجوهرانية" أو التصنيفات الثابتة، وكأنه يخشى الوقوع في فخّ إثبات القيم. لكنّ هذا الحذر، وإن بدا منهجيًا، يُفقد النص جرأته التحليلية، ويحول دون مقاربة الهوية كمسار اجتماعي مركّب ينبني على :

(1) الممارسات الثقافية و

(2) منظومة القيم في حقبة تاريخية معيّنة، باعتبار "تاريخيتها".

والأمر لا يقف عند هذا الحد؛ إذ يختلط في النص مفهوم الدولة بمفهوم السلطة، وتُقدّم أدوات مثل التعليم، والرموز، والخدمات العامة بوصفها محدّدات للهوية وفي الواقع مؤثرات في الهوية، دون مساءلة العلاقة المعقّدة بين الدولة كمؤسسة، والسلطة كتجربة يومية. كل هذا يجري في غياب شبه تام للأدبيات النظرية الحديثة حول الثقافة، لا سيما التعريفات البنيوية أو التداولية، ما يزيد من تذبذب المفاهيم التي يُفترض أن يرتكز عليها التحليل.

ويتجلى هذا التذبذب حين ينطلق المؤلف في تحليل أدوات بناء الهوية، كالقوانين، والتعليم، والرموز، من دون أن يقدّم تمييزًا ضروريًا بين الهوية كمُنظومة ثقافية والمواطنة كعلاقة قانونية، اقرب للعقد الاجتماعي الَمختزل في الدولة منه إلى الهوية التي هي كيان "المواطن" وخصوصيته الذاتية. كما لا يُفكّك المؤلَّفُ التوترَ بين الهوية الرسمية، التي تُصاغ من أعلى، والهويات الفرعية، الدينية، الأمازيغية، الجهوية، التي تظهر عرضًا في النص، بلا أدوات تحليل ولا تنظيم مفاهيمي، وكأنها طرائف ثقافية لا ظواهر بنيوية. وبهذا، تختزل الهوية إلى "مشروع سياسي"، بينما تغيب عنها بوصفها سيرورة اجتماعية نابضة.

أما الثقافة الشعبية، فهي الغائب الأكبر في تحليل التيمومي. لا نجد أثرًا يُذكر لكيفية إنتاج الناس لهويتهم من أسفل: عبر التهريب، الاقتصاد الموازي، النكت السياسية، الأغاني الاحتجاجية كأغاني الحوض المنجمي، أو الطقوس المحلية مثل "الزردة" في تطاوين. فالأمثال "الحكاويتية" التي قدّما، قديمة جدا ولم يتمّ استغلالها. فذكرُها بذلك الشكل يعوق الكتاب من حيث بُعد منهجي مفصلي. ذلك أنّ الأمثلة الشعبية، كمرآة لواقع المجتمع وقد ترتقي إلى "الأعراف الاجتماعية" في مرحلة تاريخية معينة، لا يمكن أن تُؤخذ على إنها شهادة على عصر مخالف. وهنا تكمن هشاشة التحليل في عدم تاريخيته! مثل حديثه عن بداية تاريخ تونس من عليسة، ودور المرأة العجيب فيه، في حين أن عليسة لم تثبت تاريخيا، عوضا عن المضي قُدما في أفكاره حتى نهايتها واستنتاج امر مهم في تاريخ تونس، انفردت به عن سائر بلدان المنطقة وهو سبقها في استقطاب ثقافة التجارة كنمط حياة من خلال قدوم اللوبيين من صور وحيفا، وقد يكون ذلك دفعا إلى الأمام لوضع الرجل الأولى في الحداثة، واستحالة تعميم النظام الفيودالي لانه بات َن الماضي قبل أن ذررظّخ في أوروبا الغربية.

وامّا عن الممارسات الثقافية، فأنها ليست هامشًا، بل مختبرًا فعليًا للهويات البديلة، التي تتجاوز الرواية الرسمية وتُنتج انتماءات جمعية تتغذّى من التهميش أكثر مما تنتمي إلى المركز. وإن كانت الحقب البربرية أو ما قبلها غير مؤثرة بشكل مباشر في الهوية الحاضرة، فإن الرجوع اليها بشكل غير دقيق وكامل يُغلق الباب أمام إمكانيات بحثية لا يمكن سبر أغوارها إلا بجهود أنثروبولوجية متخصّصة.

وفي هذا الاطار، لم يتعرّض الكتاب الى مواصفات "الازمة الهووية" إن وُجدت! فانه يبدو قد أضاع الفرصة لتوصيفها وتركيز التحليل حولها، لانّ الاحداث القصوى، مقل في الاقتصاد والفيزيا والطب وسائر المجالات البحثية، مهمة جدا، انّها تدعم الباحث لانّها واضحة وتسهّل فهم الواقع!

وأمّا في مستوى القيم، يقع التيمومي في خطأ مزدوج. أولًا، الفصل القسري بين السياسي والثقافي، حيث تُختزل الدولة في أدواتها القانونية والتربوية، وتُهمّش الممارسات اليومية التي تصوغ القيم. فكيف تُحدَّد معايير المقبول والمرفوض داخل الأسرة؟ ما دور المقاهي، المساجد، النوادي، والأحياء في إنتاج الهوية المحلية؟ ثانيًا، يتعامل مع مفهوم "المواطن التونسي" كفرد قانوني مُجرّد، دون الوقوف على سماته الثقافية أو أنماط ولائه. هل ولاؤه للوطن، أم للعائلة، أم للدين؟ وهل تتحقق المواطنة عبر الامتثال، أم بالمشاركة الفاعلة في الشأن العام؟ أم بدفع الضرائب؟ للأسف، يظل هذا المفهوم باهتًا، بلا روح، أشبه بوظيفة بيروقراطية منه بانتماء حيّ.

فالخطاب العام للكتاب يُقارب التقرير الرسمي أكثر مما يُجسّد تحليلًا أكاديميًا متكاملا بأسسه المنهجية، ومفاهيمه الواضحة، وارتكازه الى أهم النظريات في الشأن؛ فهو يضع الدولة في مركز كل شيء فيما يتعلّق بالهوية، لكن دون أي نظرية متماسكة لها. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى بدائل منهجية، يمكن أن تعيد رسم المشهد على أسس أكثر صلابة وتعدّدية أنظر الجدول أدناه مُقترحَ بدائل.

توصيات بحثية:

إن إعادة قراءة التاريخ التونسي في قضية الهوية، بصفة علمية تفترض الاعتماد كذلك على منهجية "التاريخ من الأسفل" (bottom-up )، التي تمنح الأولوية للأصوات في عمق المجتمع، والممارسات اليومية، وهذا، في غياب نظام نظري متكامل، يحتاج الى احصائيات وبيانات عديدة.... كما يتطلّب ذلك دمج أدوات الأنثروبولوجيا في التحليل التاريخي، لفهم التفاعل البنيوي بين السياسي والثقافي. والأهم، هو إعادة تصور الهوية بوصفها "مشتركاً (The Commons) وفضاءً للتفاوض والتعدد، وليس "مِلكًا" لاي سلطة أو تصوغه النخب باسم الأمة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات