لماذا كلّ هذا الاهتمام بالانتخابات في تركيا؟

مقارنةً بالعديد من الاستحقاقات الانتخابية الهامّـــة في العالم هذا العام (الصين، اليونان، الارجنتين، ...)، استأثرت الانتخاباتُ الرئاسية في تُركيا بالاهتمام الأبرز في وسائل الاعلام العالمية والمحلية قبل واثناء وبعد موعدها. وبالرغم من انخفاض منسوب التبادل التجاري بين تونس وتركيا، وبُعد المسافة الجغرافية بينهما والاختلافات الثقافية الحالية، فان الاهتمام بالانتخابات التركية في تونس كان لافتا. وقد يرى البعض ان ذلك ناتج من احتضانها للمعارضة في الوطن العربي ولتدفقات الهجرات القسرية. الا انني لا أرى ذلك، بل اعتقد انّ هناك عواملا أخرى لعلّ اهمّها الاتي.

استقطب الاداء السياسي لفريق اردوغان طيلة العَشريتيْن السّابقتيْن اهتمامَ جزء هامّ من المجتمعات العربية الفاقدة "للرّيادة". اذْ بدا أردوغان يُجابه تقريبا نفس التحديات من :

(1) معوّقات ضدّ التجارة العالمية (بأشكال مختلفة)،

(2) تمتين الاقتصاد التركي بعد انهياره في التسعينات،

(3) تحسين مستوى الرّفاه الاجتماعي،

(4) العمل على حماية مصالح تركيا في فضاء تحرّكها الدولي،

(5) إعادة الاعتبار للدور الإقليمي الذي كانت تلعبه تركيا في حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى (معاهدة لوزان بالنسبة الى تركيا، وسايسبيكو بالنسبة الى العرب).

ولئنْ لم تنل هذه التحدياتُ على أرض الواقع الأولويةَ في العديد من البلدان العربية، (تجزّأ بعضها وانهار البعض الاخر وتهمّش جزء آخر)، فإنها كانت مُعلنة في الخطاب التركي، تلقفتها المجتمعات وكأنها موجّهة اليها، خاصّة عند إعادة انتخابه بنسبة مشاركة تفوق النسب المعهودة في البلدان الأوروبية، في ظل تداعيات الكورونا والحرب في أكرانيا و وتباطؤ النمو في العالم.

وكما أفضى صعودُ أردوغان كرائد في "أعين بعض المجتمعات" الى اتخاذه مرجعا "لأفضل الممارسات"، صعدت كذلك اتجاهات مناهضة له أخذَ نطاقُها الإقليمي يتوسّع حول محاورٍ عناوينُها سياسيةٌ وايديولوجية، الى أن طالت التجاذباتُ بين الموْقفيْن برلمانَنَا حيث -مثلا- يَذكّر أستاذُ التاريخ والعضوُ في البرلمان عن حزب الشعب، ذي الانتماء العروبي الذي لا يؤمن بالضرورة بالدّولة الوطنية، في رفض التصويت على لائحة طلب اعتذار فرنسا عن جرائمها، أنّ تونس كانت تحت وطأة الاستعمار العثماني ومن الضروري أن تُطلبَ أيضا تركيا الاعتذارَ.. في انه لا يبرر ذلك الاّ استعمال وعي مابعد الحداثة في واقع جرت احداثُه فيما قبل الحداثة الاولى!… ووددت في ذلك الوقت أن يواصل صاحبُنا طلب اعتذار دولة قرطاج -بنفس المنطق- من السكان المحليين من البربر…

كما كانت تفاعلات المناهضين لأردوغان في تونس قائمة في غالبيتها على الانطباع (بوضع تركيا سببا في تصدير الكاكاوية الى تونس)، أكثر منه تحليل بالوقائع وبالاطلاع عمّا يجري في المشهد السياسي التركي الحالي والابعاد الجيوسياسية المتفرعة عنه. وقد يرجع ذلك الى عدم السيطرة على وسائل التحليل ومنهجيته العلمية، وكذلك السقوط في فخ منظومة صناعة الراي التي تتحوّل وفق التوافقات، والتي هي في حد ذاتها متحرّكة وغير ثابتة. فحلفاء البارحة أعداء اليوم، وصاحب الاستراتيجيا يصنع "عدوا" بانتقاده أو"حليفا"بالثناء عليه، ثم يمرّ الى التطبيق.

وبقطع النظر عن خلفيات الرئيس المنتخب، فانّه يبدو قد توصّل الى حماية مصالح شعبه ووحدة أراضي بلاده. ومن المهم الإشارة الى أنّ تركيا، رغم أنها أضاعت فرصة وضع قدم في المجتمع الحديث منذ خمسة قرون (يحتاج الى تفصيل)، واتخذت منحى تنازليا منذئذ أمام الصعود اللافت للقوى الاقتصادية والعلمية في أوروبا على عكس ما يمكن أن تفيد به ظاهر الاحداث من توسع أفقي وريعي للدولة العثمانية، لا يمكن مقارنتها بتونس أو سوريا أو الجزائر التي كانت مستعمراتٍ لدى فرنسا، وتمّ رميُها في غياهب التخلّف وقُضي على ارادتها وإرادة حُكامها وهي تحمل في كل مرحلة من مراحل تاريخها الحالي مخلّفات الاستعمار ولم تبنِ مرجعياتها المحلية ولم تتخذ قرارا استراتيجيا بدون مراقبة مواقع النفوذ في العالم. لذلك يتسنّى لها التأقلم مع التحديّات في فضائها الاستراتيجي والاستفادة من صعود الاقتصاد السياسي الجديد وأن تمنح لنفسها إمكانية الصعود الى مصاف الدول الإقليمية، خاصة بتحالفها مع القوى الإقليمية الصاعدة الأخرى. فلا يمكن لدولة أن تستمرّ اذا لم تتوسّع، ولا يمكن أن تتوسّع الا على حساب غيرها! هذا ما يبرهن عليه التاريخ.

أمّا الحديث محليا عن اسلام سياسي أو اخواني في تركيا، بما في ذلك من اسقاط للتصنيفات الرائجة في الفضاء العام، فاني أعتقد أنّها منهجيا لا تجدي نفعا ولا تمكّن من الالتفات الى الاختلالات الحقيقية التي يعيشها المواطن التونسي اليوم، والتي لن تُجابه بهذه التصنيفات ولا بهذه الثنائيات التي، أعلبها، لا تعيد النظر في مسائل المواطًنة ولا تدفع الناس نحو الالتفاف حوا الدولة الذي هو شرط لازم للحديث عن مستقبل.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات