اليوم في باجة: اغنية "بالأمن والأمان يحيا هنا الانسان"، والحاضرون متجمّعون يردّدونها رافعين علم الوطن ....

أتذكّر في أواسط السنوات الـ2000، بُثّــتْ هذه الاغنية بمناسبة ذكرى انقلاب نوفمبر 87، في وقت تمّ فيه استكمال إحكام السيطرة على الحريات العامّة والفردية، وبروز نمطية لشخصيةِ أهم الفاعلين؛ شخصية متمحورةٌ ملامحُها حول "المواطن الخوّاف-المُحترم"، الذي ليس له من تعبير إلاّ اعتبار بن علي المُلهم للشعب التونسي، وتثمين "الأمن" في البلاد وتوافر السيارة الشعبية والقروض البنكية لشراء "قبر الحياة" كنايةً على شقّة في طابقٍ من طوابق عمارة، لها "نقابة المتساكنين"، أو الغضب على حَكم مباراه رياضية.

تمّ بثّ هذه الاغنية في وقتٍ تدهورَ أثناءه التعليمُ وانقلبت معايير النجاح الاجتماعي رأسا عن عقب، وبدأ الاقتصاد يتدهور، وتراكمت الديون الاجنبية طويلة الاجل، وتعددت الحلول الترقيعية ببيع جزء من اتصالات تونس، ثم بعض معامل الاسمنت لتغذية ميزان الدفوعات، وعظم دورُ الوساطات غير الرّسمية والسّلطات الموازية في كل جزئية من دقائق الحياة اليومية (موعد في المستشفى، تسجيل في جامعة، مشاركة في مناظرة توظيف، الحصول على قرض بنكي، قضية طلاق، جدول الاوقات،...).

تمّ بث هذه الاغنية في وقت أٌحكِم فيه السطوُ على الرّيع من قِبل مجموعة مصغّرة من الناس، مُقرّبة من حلبة السلطة مثلما جاء في: "الثورة غير المكتملة"،(2014، البنك الدولي).... تمّ بث هذه الاغنية ولم يؤرّخ بعضُ المؤرخين المتخصّصين، الشاهدين على عصرهم كما يدّعون، ولو بكلمة على ذلك الواقع …

في ذلك الوقت، اتجهتُ الى الطلبة أثناء الدّرس - وقد يتذكر ذلك بعضُهم الآن- طالبا منهم أن يُجيبوا بكل صراحة عمّا اذا سمِعوا كلمةً في محيطهم حول "الوطنية" وأبعادها بمعزل عن الخطاب السياسي السّائد، عدى أغاني "تونس-تونس"، أو ما شابهها عندما يتنصر المنتخبُ الوطني لكرة القدم أو بين الشوطيْن! فأجاب جلّهم صدقًا بعدم تخصيص ولو 5 دقائق طيلة حياتهم للحديث عن "الوطنية"!

استمعت اليوم لأغنية "بالأمن والامان يحيا هنا الانسان"، فرجعتْ بي الذاكرة الى زمن رديء، تراكمت فيه الحماقات، وخفّت فيه الطروحات، وجفّت فيع العيون واغترب فيه المرءُ وهو بين بني جلدته…

من الاكيد أن الواقع الحالي لم يتحسّن في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، ولكن بالأكيد كذلك أنّه يمنح فرصةً قد لا تُعاد لتحقيق الرقي الاجتماعي المنشود وأركان المواطنة الحقيقية وتنزيل الشعارات التي تمّ افراغها من محتواها على أرض الواقع، والا الرجوع الى المربّع الاول سيكون مآلا حتميا طالما بوصلة االقائمين على الشأن العام الحاليين غير مُعدّلة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات