اقتصار المسافات، الجمالية، الفن والتعبيرات المزيفة: هيجل بريءٌ منكم.

Photo

العديد من المسائل التي تمّ الحسمُ فيها منذ الحداثة الأولى، مثل تلك المتعلقة بالمواطنة وخصوصيّات الفرد والمجال الواسع لممارسته الاجتماعية كونه كيانا غير قابل للتجزئة، وصولا الى العقد الاجتماعي، لا تزال عالقةً في مجتمعنا الحالي. فمنذ القرن الخامس ق-م، ورثت البشريةُ أُولى مُنشآت الفكر على الإطلاق ألا وهو الفنّ، بما يمكّنها من التفاعل مع الطبيعة والمحيط الإنساني الذي اتخذ من المجتمعَ تنظيما وكيانًا للتواجد والتعايش.

وقد سبق الفنُّ الفلسفةَ وبعد ذلك العلمَ، وأول فروعه "العلوم السياسية" (أو علم المدينة) .إلاّ انّ عُلماءَ الأنثروبولوجيا لم يُنيرونا بالشّكل الكافي عمّا إذا كان الفنُّ سابقا للدولة -وهو الارجح، كما نرى، لأنّه ينبع من طبيعة الإنسان –باعتبارها، أيْ الدّولة، مُنتجًا اجتماعيا لحركة الانسان. ففي كلتا الحالتيْن، نحن المعاصرون على يقينٍ من أنّ الفنّ تطوّر عبر المجتمعات ونشط جنبًا إلى جنب مع الفلسفة والعلم والدّولة خلال الــ 22-23 قرنَا الماضية على الأقل.

فكما ساهم في تحرير قدراتها خلال فترات من التاريخ، تأثّر هو الآخر بها واستفاد منهما. لذلك نجد الصّروح البابلية الجميلة، والمعابد الفرعونية على ضفاف النيل، الشاهقة والمُتقنة، والهندسة العربية-الإسلامية الدّقيقة والمتوسطة للمدينة والاسواق، والكنائس الأرثدوكسية المُهيمنة التي كانت مَعينَ القرارات الفوقية المتعلّقة بشأن العامّة والدّولة والتي تُجسِّد امتدادًا للفن، بمعنى الارتقاء بالرّوح (هيجل) بما يُفرزهُ من انفصالٍ فوري عن الواقع ومرافقة الشعور بالجماليّات والملكات التمثيلية والتجريدية والتعبيرية، ممّا يسمح للإنسان أن يكون لديه القدرةَ أن يعيش غايةً أخرى أعلى من تلك الماديّة والملموسة في واقع "جامد، رتيب وأخرص"، وبالتالي يتجاوز الدوافع الطبيعة والغريزية الكامنة فيه. لذلك، للفنّ الإنساني جماليةٌ أكثر عُمقًا وأرقي إنسانيّةً ممّا تمنحُه الطبيعةُ من جمال.

فبدون الإنسان وتفاعُله المجرّد مع الطبيعة واكتشاف أسرارها، لا يمكن لهذه الأخيرة أن ترتقي الى إنسانية الانسان. فكان المسرحُ وكانت اللوحاتُ التصويرية بأنواعها والموسيقى حيث الاوزان والايقاعاتُ كانت مستمدّة من سير الحيوان ومن أصوات المناخ وصدى الاصوات من الجبال وصوت الرمال في الصحراء وخشخشة الحجارة الكريمة.

وكل وجه من وجوه الفن يُعانق المشاعر الإنسانية بطريقة معينه، كما يخاطبُ الوعيَ وينزع الغشاء عن غفوته، وقد يخلع عنه رداء الوهن ويرتقي بوعيه بخفايا الواقع، وقد يعمّقه ويدفع به الى الفعل وتحقيق ارادته. فالإنسان هو سرّ الكون ومحوره ولا يمكن أن يكون كذلك الاّ عندما يتحرر من أغلال ومعوقات المحيط الاجتماعي.

ولمّا كان الانسانُ اجتماعيا بالضرورة، كانت الدّولةُ التي هي "القوة المُركّزة للمجتمع"، هي التي تختزل العَقد الاجتماعي وتمثيله الرّسمي من خلال احتكارها للسّلطة، ولِمَا تنقلُه من القيم الثقافية والأخلاقية والهووية، والأعراف ونمط الوجود الاجتماعي. ولذلك كانت الدّولة هي الضامن الأخير للحريّات حتى يواصل الفنُّ مهمّته في الارتقاء بالإنسان.

ولكن في واقع اجتماعي مُمزّقٍ، بدأت مظاهرُه منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وتصاعدت في التسعينات وتشتت انسجتُه على نار هادئة في العشريتيْن الاخيرتيْن بتصحّر ثقافي لم تشهده تونس منذ زمن جماعة تحت الصّور والدوعاجي والشابي وزبير التركي، وشريط "الفجر". فتعدّدت سلالم القيم والمرجعيات الأخلاقية بين الأجيال وضِمنها، وفقدت المفاهيم معانيها الاصلية وتعطّل نظام الاتصال ووجد الفنان نفسه في خيرةٍ وعجز عن الصدع يما ولج في صدره من خوالج، إذْ ينشأ في سياق اشرطة مثل "عصفور سطح" و "ريح السّد" و "صفايح ذهب" التي قُدّمت على انّها "تاريخَنا"، ولم يتدخّل خُبراؤنا الافذاذ لتصحيح الموقف بانّ تاريخنا لا يقتصر على تلك القصص وانّ قضايانا اهم من ذلك، لما تتضمّنه من جُرأة لم يستسغها كل التونسيين ولم يتمّ عرضُها كاملةً في القنوات التلفازية التي فُتح لها المجال فيما بعد لمسلسلات ذات الجُرأة الأكثر في العشرين عاما الأخيرة.

فيمكن للفنّ الاّ يلتقي بتاتا مع الاخلاق، ويمكن أن يتعارض معها ويمكن أن يلتقيها. (*) ولكن أرقى الفنون هي تلك التي يقوم صاحبُها بالتعبير عن كلّ الإشكاليات بما في ذلك النزوات الفردية والشهادة على العصر بدون التعارض مع قيم ذلك المجتمع في تلك المرحلة التاريخية، مثلما توحي به منحوتات الاغريق أو الرّومان أو كذلك مسرحيات فولتير ورومنسيات فكتور هيجو.

فالمشكل هنا إنّما هو ذو بُعديْن. الأوّل متعلّق بحُدودِ الفضاء العام بالنسبة الى الفضاء الخاص التي تحتاج حسمًا لما تتضمنّه من اشكاليات منهجية في الادبيّات، والثّاني مرتبطٌ بعلاقة الفنّ بالأخلاق التي حُسمت منذ القرن التاسع عشر في أوربا. (يحتاج الى تفصيل). فإذا كانت دُور السينما والمسرح والنحت والموسيقى فضاءاتٍ خاصّةً مفروضَةً من أفراد دون غيرهم، لا يَعتبرون الفنّ متعارضًا مع "الاخلاق" المتعددة للمرجعيات في الأزمة الاجتماعية الحالية، فلا يحقّ لأي طرف آخر التعرّض اليه قبل طرح إشكالية الازمة الاجتماعية الحالية، وإذا اتجهت المجموعة الاجتماعية الى هجرها فإنها ستزول لا محالة مع مرجعياتها القيمية.

وإذا كان فضاء انتاج الفن عامًا، فعلى الدولة ان تقوم بدورها في حماية هذا الفضاء من كلّ أعمال "تخدش الحياء" في كل الفضاءات الثقافية والقنوات التلفازية وكل شبكات التواصل الاجتماعي والفضائيات، وهذا لا يُطبّق الاّ في كرويا الشمالية. فحرية الكلمة بمعانيها، لمن لا يعوفون ذلك، أغلى بكثير من اقتصار المسافات الذهنية والذود عن العِرض في الفضاء الخاص انطلاقا من الفضاء العام مثلما كان يقوم به تشاوشيسكو في رومانيا قبل ان يلفظه التاريخ.


Victor Delbos (1918) : (*)

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات