تقليم مخالب الديموقراطية، ترسيخ البحث عن الريع وستار السياسة…

Photo

أتذكّر في أواخر التسعينات أنّني كنتُ يومًا جالسا في إحدى المقاهي في مونتريال الكندية وكانت هناك طالبةٌ جزائريةٌ تُطالع كتاب " الإسلام والحريّة: الالتباس التاريخي " للرّاحل محمد الشرفي. بادرتْني بالحوار لمّا عرفتْ أنّني تونسي، وتساءلتْ عن وضع المرأة التونسية والمكتسبات التي حققتْها مقارنةً بالمرأة الجزائرية، وعلى مُحياها تداعيات الاحداث الحزينة في بلدها وخيبة أمل عميقة.

فكان لي أن أتواضع إكبارًا للجزائريين مذكرًا إيّاها ببطولاتهم التاريخية في مجابهة الاستعمار الفرنسي، مشيرا الى دور المرأة فيها وشدة بأسها في حركة التحرير وكذلك إلى تاريخ الجزائر انّه مرجعٌ للشّعوب من حيث رباطة الجأش والتوق الى التحرّر والمناعة وأنّ ما يحصل – في تلك العشرية– من أحداث دامية وتعطّل لآلة الإنتاج (عدا قطاع النفط والغاز) وتفاقم البطالة واهتراء البتية التحتية، ما هو الاّ مرحلة زائلة لا محالة وأنّ الجزائر سيستفيق يومًا فريبًا وينهض ويصبح أقوى ممّا كان عليه، وأنّ ما نشره محمد الشرفي – على أهمّيته الأدبية – في ذلك الوقت بالذّات قد لا يواكب الواقع الاجتماعي والسياسي الراهن في تونس ولا يتضمّن بالضرورة القضايا الحارقة من كبْتٍ للحريّات العامّة والفردية وتكميمٍ للأفواه وصعود بعض العائلات الباحثة عن الرّيع، المهيمنة والتي تعاقدت في "زواج متعة" مع النظام، والتي استرقت عرق جبين التونسيين ببداية تطويع القوانيين لصالحها وانّ ثقافة "المْعارفْ" اخذت تنتشر وانّ "مقاييس النجاح الاجتماعي" بدأت تنقلب رأسا على عقب، وأنّ حُكم الرئيس قد طال أكثر من المُنتظر وأنّ إصلاحات التعليم فاشلة وأنّه أصبح متدنّيا، وأنّ الاقتصاديين وأساتذة الحقوق الذين جلبهُم بن علي من الجامعة الى دوائر الحُكم أضرّوا بالجامعة بافراغها (مع الاحترام والتقدير لمن بقوْا فيها)، اذْ اصبحوا رهينهًّ لديه واداةً لحماية النظام وتقنين الاستفادة من الريع غير المستحق، و"قضْيانْ القضْيات للاقارب" وأنّ ما يقومون به هو اقرب لشرعنة السطحية في الخطاب وترميم للاوتوقراطية منه الى النهوض بالواقع. أتذكّرها اليوم وأتذكّر ما قالت بأنّها "تُفضّل كلّ ذلك عن غياب الأمن وفقدان المواد الأساسية والتغذية ونمط المعيشة العادية"، حتى أنّني ذكرتُ لها التجربة اللبنانية الصّاعدة آنذاك والتجربة الأردنية الواعدة في ذلك الوقت من حيث التوجّه نحو ترسيخ الحرّيات وتحرير المبادرة والديموقراطية، إلاّ أنّها أصرّت وأكّدت على مواقفها وانّ هذا "الرفاه" لا يعنيها.

أتذكّرتلك الفتات الجزائرية اليومَ لمّا أرى آلاف اللبنانيين يُناشدون ماكرون مناشدة الغريق لــ "ميسّي" علنًا بالانتداب وأرى استجابتَه المشروطة لهم وهو ضيف عندهم، غير مكترثٍ بمُمثلي دولتهم المُفكّكة وبآلام لبنان الجريحة، الاّ أنّ أطلال التركيبة الطائفية للنخبة السياسية المُستعمَلة كأداة في النزاعات حول تقاسم الريع حالت دون إطلاق قدراته الحقيقية ودون تقوية الدولة ومؤسّساتها.

كلّ هذا يدفعني الى التفكير حول القواسم المشتركة بين هذه التجارب المختلفة بما فيها التونسية حيث "الديموقراطية" و "القضايا الوطنية الحقيقية" أُخِذتْ من قِبل أغلب الفاعلين السياسيين كوعاءٍ خالٍ من مضامين حقيقية للرّقي الاجتماعي والتنمية ولتطلعات النّاس؛ مضمونٌ بُترت فيها مفاهيمُ الدّولة ومعاني السّيادة الوطنية في خطاب متخبّط، محدود النّطاق، غير وازن، ضيّق السّبل ومحلي الوقْع، الى حدّ انّ الذين يعتبرون أنّ للديموقراطية مخالبًا تحميها، عليهم أن يراجعوا ذلك وينظروا للتاريخ بأكثر تأنٍّ. فلا ديموقراطية بدون ديموقراطيين ولا انتقال ديموقراطي بدون تنمية شاملة ولا حقوق مواطنية بدون دولة مؤسّسات تحارب الفساد وتزيح المستفيد بدون حق من الريع.

كل هذا يدفعني كذلك الى الجزم بأنّ الشّعوب الفاقدة للدولة ذات السيادة والمؤسّسات المستقلّة، والتي تُجابه ندرة الموارد المالية، والتي هي غير قادرة على حماية المواطن، والتي لا يلتف السعب حولها، يتلاعب بمستقبلها من وُلُّوا عليها وجعلوها فريسةً في قبضة المستفيدين منها، فإنها تصبح سهلة الاختراق ولا تصمدُ أمام أبسط الريّاح، فيفقد المواطن أمْنَه وثقتَه بالآخر، وتقذِف به التيارات الى المياه الرّاكدة وتُثـــنيه عن الوعي وحب الحياة الكريمة والتوق الى الابداع، ويمضي باحثًا عن الحياة في أبسط معانيها حتى ولو كانت ذليلةً.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات