في عالمٍ تتضخم فيه أسواق البيانات، وتتحوّل فيه الحياة اليومية إلى معطيات قابلة للتتبع والتوظيف والتسليع، لم يكن صوت الأستاذ شوقي قدّاس إلا منارةً في بحرٍ عاتٍ من المراقبة والتغوّل التكنولوجي، واللامبالاة في نفس الوقت. رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية، الذي غادرنا فجأةً، لم يكن موظفًا بيروقراطيًا ولا فاعلًا عرضيًا في هذا الزمن الرقمي، بل كان ضميرًا يقظًا في معركة أصبحت اليوم من أبرز تحديات السيادة الجمعية والشخصية.
تميّزت مسيرته بمواقف صلبة وواضحة، لعلّ أبرزها رفضه القاطع لمشروع بطاقة التعريف البيومترية، لما رأى فيه من تهديد للحريات الفردية في غياب ضمانات قانونية واضحة. لم يُخدع بالخطاب "الحداثي" الذي يغلف مشاريع الرقابة التقنية، بل تفكّك لديه هذا الخطاب حين تعارض مع الحق في الخصوصية والحرية الذاتية.
وقد تصدّى، بنفس العزم، لمحاولات فرض تطبيقات صحية وأمنية، مثل "7mi"، خارج أطر الشفافية والموافقة الحرة، معتبرًا أن "الخوف الجماعي لا يبرّر المساس بحقوق فردية أساسية"، وأن المعركة على البيانات ليست تقنية، بل أخلاقية وسياسية في جوهرها.
وفي وجه تغوّل الشركات العالمية ولوبيات التكنولوجيا، دافع قدّاس عن "سيادة تونس الرقمية"، محذرًا من إسناد مهام تخزين البيانات الوطنية أو معالجتها إلى جهات أجنبية دون رقابة فعّالة. لم يكن يخشى الاصطدام بمنظومات النفوذ، بل كان صوته ينحاز باستمرار إلى الإنسان – الإنسان في مواجهة الرقابة، الإنسان في مواجهة التنميط، الإنسان في مواجهة المسخ الرقمي.
ورغم الصعوبات المؤسساتية، ظلّ يُطالب بتمكين الهيئة التي يرأسها من "الاستقلال القانوني والموازناتي"، مؤمنًا بأن حماية المواطن لا يمكن أن تُبنى على مؤسسات صورية، بل على أدوات دستورية فعّالة وقيم لا تقبل التنازل.
برحيله، تفقد تونس أحد أبرز رجالاتها الذين أدركوا مبكرًا أن المعطى الشخصي هو مرآة الإنسان، وأن التفريط فيه هو تمهيد لصيغة جديدة من الرجع الى الوراء. لكنه يترك إرثًا ناصعًا من الشجاعة والنباهة والالتزام، في معركة لا تزال مفتوحة، وتحتاج إلى أصوات تحاكي صدقه وصلابته.
رجم الله الفقيد، وأسكنه جنته.