نقاشات لا طائل من ورائها…

"تدهور الترقيم السيادي الاخير ناتج عن "قيس سعيّد"، Vs. "ناتج عن عشر سنوات ديموقراطية فاسدة".

طيب.

انّ هذا نقاش بين موقفيْن متطرّفيْن خارج السّياق، لأنّ (1) لا هؤلاء ولا أولئك التزموا بالمنهجية الدقيقة التي تتّبعها وكالات الترقيم السيادي، بالرّغم من العُيوب العلمية التي تحوم حولها. و(2) لانّ الترقيم السيادي لا يخضع الى تقييم هيكلي طويل الاجل للاقتصاد. فالحديث عن عشر سنوات من فشل الطبقة السياسية -وهو وارد بصفة بَعدّية- قد بدأ المعارضون السياسيون فيما بينهم وامتداداتهم الاعلامية اقرارَه منذ الاسبوع الاوّل من انتخابات 2011 بالاعتماد على شخصيات بعيدة عن المجال الاقتصادي في أغلبها، الى أن أصبح الفشل "حقيقةً" راسخةً لدى الرأي العام، اشتغلوا عليها باستمرار وبدون هوادة طيلة عشر سنوات.

وحتّى ان كان التقييم البَعْدي صائبًا في بعض أبعاده التنموية خاصّة في التشغيل وفي الاستثمار الخاصّ وفي مسالك التوزيع والاحتكار وفي العنف بأنواعه وتدهور القيم الأخلاقية وفي توسّع القطاع غير المُهيكل وفي تقهقر المستوى التعليمي وفي تعبئة الكفاءات الوطنية الحقيقية، فهذه القضيّة المتعددة الابعاد متعلّقة بمسؤولية نجاح "مسار الدّمقرطة" كما جاء في التجارب المقارنة وهي مسؤولية كل أصحاب المصالح وهم :

(1) النخبة المثقفة والاعلام في تعميق الوعي بالقضايا المشتركة، و

(2) النخبة الاقتصادية في الاستثمار في الديموقراطية وعقلية التشاركية، و

(3) النخبة السياسية الارتقاء الى مستوى وعى العامّة، و

(4) المجتمع المدني بمراقبته المتواصلة للمسار الديموقراطي بنفس المسافة من كل أصحاب المصالح. ويحتاج هذا المسار من الوقت ومن الجهد في بناء المؤسّسات الديموقراطية.

فلا يمكن لأي حكومة النجاح بمفردها ناهيك في متوسط فترة لا تتجاوز عامًا لأنّ الدولة بطبيعة الحال ضعيفة (على المعنى المؤسّسي للكلمة) وهي مسألةٌ هيكلية. وما دُمنا هُنا، فانّ هذه القضايا الهيكلية ترجع -وفق هذا المنطق المجانب للصواب لتفسير تدهور الترقيم- الى قُصر نظر وضعف مستوى الاستشراف للفريق الذي حكم تونس قبل 2011، ذلك انّه في وقت حيث انتهى منوال التنمية الى حدوده، لم يضع لا استراتيجية صناعية شاملة ولم يُعصْرِن القطاع الزراعي وقطاع التعدين والموارد الباطنية، ولم تكن له رؤية اقتصادية للتنمية المكانية ولا للاستثمار في رأس المال البشري؛ رؤية تنأى بالبلاد ممّا وصلت اليه في عام ٢٠١٠ من تفاوت جهوي وبطال مرتفعة وضعف في القدرة التنافسية خارج-الاسعار.

وقد تراكم الفساد في تلك الفترة وانتشرت المحسوبية (تقرير البنك الدولي-٢٠١٤-)، وأرسى نخبةً تسيّر البلاد تميل أكثر الى التنفيذ لا الى المبادرة، تكنوقراطية فيها من يخاف من ظلّه. ويمكن وفق هذا المنطق الذهاب أكثر في المراحل التاريخية المتعاقبة بالقول انّ ذلك الفريق ورث وضعا اقتصاديا رديئا من حقبة حكم بورقيبة بعد فشل تجربة التعاضد ومحاولة الالتحاق فيما بعد من خلال قطاعي النسيج والسياحة اللذيْن لا طائل منهما من حيث تحويل التكنولوجيات على غرار التجارب المقارنة في ذلك الوقت من دول جنوبيْ شرق آسيا وأمريكيا، والادبيات الاقتصادية في تلك الحقبة، بحيث بُني الاقتصاد الوطني اراديّا على اعتاب الريع ومجموعات الضغط.

ولذلك، لا يمكن الحديث عن اسباب هيكلية ممتدّة في التاريخ لتدهور الترقيم السيادي الذي هو ظرفي، لانّ منهجية الوكالات، كما انتقدها الاقتصاديون مثل (Smith,2001) و(Rousseau, 2006)، لا تعتمد السلاسل الطويلة في الزمن، بل تقتصر على أحدث الاوضاع في تقييمها لاستدامة الدين، وهذا يُحدث تحيزا في التقديرات (estimation bias) وخطأ في التنبؤات (forecast error). ومن جهة أخرى، يدافع شق آخر على هذه المنهجية بضرورة الاستجابة الفورية لحركيّة الاسواق والتي تقتضي الاقتصار على الوضع الجاري...وأمّا الحديث عن عشر سنوات، فانّ الدّين ظلّ مستداما الى غاية عام 2014، وكانت كلّ تقارير الوكالات وخاصة موديز تشير الى أمرين أساسييْن :

(أ) عدم الاستقرار السياسي ومخاطره، و

(ب) عدم القدرة على انجاز الاصلاحات، ذلك آنّ أعلى منسوب من هذيْن العامليْن المؤدّيين الى مزيد من الهشاشة الاقتصادية الكليّة المؤديّة -في حد ذاتها- الى عدم استدامة المالية العامّة وبالتالي الدين، كان في عام 2013 وفترة 2016-2021 التي -هذه الاخيرة- شهدت سبعَ حكومات بالتمام والكمال بما تضمّن ذلك من مئات من الإعفاءات والتعيينات في مفاصل الدولة، ممّا لا يوفّر الحد الأدنى من شروط التفكير حول السبُل العاجلة والاولوية التي كان بالإمكان القيام بها لإرجاع الكفّة لفائدة تحسين الترقيم... وارجاع الكفّة يحتاج العمل على جانبيْن. جانب استراتيجي يستهدف سدّ ثغرات الهشاشة الاقتصادية الهيكلية، أي مرونته (قادر على ترويض الصدمات العشوائية التي يتلقاها الاقتصاد) والهشاشة الماكر واقتصادية، بحيث يصبح الدين العام مُستداما. ،هذا ليس مستحيلا لو تُرك الاقتصاد في منئ عن التجاذبات السياسية.

وأخيرا، لا يمكن أن أنسى انتشاء البعض لتدهور ترقيمنا السيادي، كما كان الحال فيما سبق. فالوضع ليس ملائما لا للعواطف، ولا للحماس الكاذب ولا لتسجيل نقاط وهمية ضدّ غريم ولا حتى للذهاب بُهتانًا الى التشكيك في الديموقراطية واعتبارها "فاسدة" أو "شكلية". نعوتٌ غير بريئة ولم يأت بها الديموقراطيون. واذْ أنّنا لسنا في ديموقراطية مكتملة، فإننا بصدد بنائها حسب "مسار" يحتاج الى التكاتف وتعزيز المؤسسات التي تحتضنها والى تحقيق التنمية التي هي عصبها. فهي إطار تُدار فيه النزاعات لأنه مكسب، لو تعلمون، عزيز على أهله.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات