حول "براغماتية" القروي و"مثالية" سعيّد.

Photo

يعتبر البعض أن الاختلاف بين المترشحيْن يكمُن في مثاليّةُ سعيّد الى حدّ التصوّف، وبراغماتية القروي الى حد اعتباره "الحل المُتاح"، في ظل غياب ملامح الزّعيم الرّاسخة تقليديا في الذاكرة. فلا هذا براغماتي بمعنى سندرس، ولا ذاك مثالي بمعنى هيجل أو برغسن.

وفي هذا الصّدد، لي بعض الملاحظات، وهي:

– قد يبدو القروي "براغماتيا" عندما يتحّدّث عن أفكار "معقولة" تتمحور حول تدريب الشّباب العاطل عن العمل، وتمويل مشاريعهم، والأخذ بيد الفقير، والوساطة بين الأطراف "المتناطحة" - حسب تعبيره، في ليبيا، وانّ" أبو مازن" صديقه، وانه سيُحدث "محكمة خاصّة بمحاربة الفساد".

لكن رئاسة الجمهورية ليست ادارة التدريب المهني، ولا جمعية خيرية، ولا يمكن علميا محاربة الفقر بالتحويلات ولا إرساء التّنمية بهذه الطريقة... وكما انّ" أبو مازن" صديقه، فانّه كذلك صديق لبرلسكوني الذي يقبع في السّجن حاليا، وأنّ محاربة الفساد مهما كانت إجراءاتها لا يمكن الانتصار فيها عندما يكون رائدُها مورّطا في الفساد. وكما قال العرب، "إذا كان الغرابُ دليلَ قومٍ، سيهديهم إلى دار الخرابِ ".

وحتى لو أنّ عديدَ المهنيين والمتاجر صغيرة الحجم وغيرها المنضوية في النظام الضريبي التقديري لا يُدْلون بأرقام معاملاتهم فهُم متهرّبون من دفع الضرائب، شأنُهم شأنُ المنتفعين من المال العام بدون وجه حق والمهرّبين لرؤوس الأموال الوطنية للخارج بطرق مُلتوية والقابضين للرشاوى استغلالا لموقعهم في السّلطة مهما كان موضعهم، كُلّ هؤلاء فاسدون.

أضعفوا الدولة واخترقوا مؤسساتها وخدشوا هيبتها. وإذا كانوا كُثرا، بدعوي "شنقة مع جماعة خلاعة"،و "اعمل كيما جرك واللاّ بدل باب دارك"، فانّ ذلك لا يشرّع لغض الطرف عن المترشح للرئاسة الذي تلاحقه شبهات فساد، بمنطق تساوي المعايير؛ مُترشّح– مثل العديد من مُنافسيه، لم تبدُ عليه مؤهلات كفاءةٍ تُذكرفي ادارة الدولة التي لا يمكن البتة تشبيهها بــ "الشركة الخاصة" مثلما قال قبله العديد من المتحدثين في الفضاء العام الذين يروْن المجتمع من خلال الشركة، في حين أنّ الشركة يجبُ أن تُرى من خلال المجتمع (يحتاج الى تفصيل).

فإذا كان هذا هو معنى "البراغماتية" التي يوصِّف بها البعضُ المترشحَ نبيل القروي، فإنّه خارج نطاق المُصطلح الذي وجب أن يتوجّه نحو مصلحة الناخبين الحقيقية ومصلحة الوطن، لا مصلحة المترشح الشخصية التي قد تتحقق لاوعيا لأهمية المرحلة بدعمه من ناخبين يريدون معاقبة طرف سياسي اراد ان يدعمه. ويمكن الرجوع الى سندرس وغيره من المراجع التي فصّلت في موضوع البراغماتية للحُكم من تشويه معناها لذى البعض.

– قد يكون قيس سعيّد مُتشبّثا بقِيمٍ آمَن بها كسائر جيل الستينات والسبعينات والذين يلُونهم، وسيطرت على خطابه مُقاربةً قانونية تبدو تنظيرية، بحيث غابت خططُه وبرامجُه التشغيلية. لكن ملامح الأزمة الأخلاقية والقيمية الحالية متجسّدةٌ في :

(1) سُلوك جزء من النّخبة السّياسية المتهيئةً لقيادة البلاد والذين كان عليهم أن يكونوا قُدوةً للشباب وللمواطنين عمُوما .تُهمٌ بالجُملة: (تحرّش عضو مجلس النواب بقاصر، هُروب رؤساء أحزاب من المحاسبة والاحتماء بالخارج، تورّط بعض رجال الأعمال والسّياسيين في الفَساد المالي)، فضلا عن

(2) العُنف اللّفظي والجسدي في الفضاء العام، و

(3) التبلّد الذّهني– بمعنى شومبيتر، المُذاع في بعض القنوات التلفزيونية تلويثا للبيئة السمعية والبصرية واستخفافا بالوعي الجمعي. ففي هذا الإطار حيث منسوب القِيم السّلوكية يبدو مُتدنّيا، فإن تشبّث قيس سعيّد بقيم أخلاقية قد يبدو استثناءً، مثل الغائه الحملة الانتخابية حين كان منافُسه مسجونا، (وقد تكون مناورة سياسية)، وعدم استغلاله في المناظرة تورّط القروي في شبهات فساد وتبييض أموال وتعامل مع أطراف أجنبية بتمويل مشبوه، ورذالة خطابه المسرّب، وعدم اكتراثه بذكر منافسه غير الأخلاقي لمرض السرطان.

وبقطع النظر عن هذه الحيثيات، فان محاربة الفساد والولاء للوطن والريادة وصدقية الخطاب واحترام الدستور، التي تحتاج الى كفاءات ومهارات متعددة لم يتسنّ للناخب التأكّد منها لدى المترشحين، فإنّها لن تتحقّق بأولوية "براغماتية" محدودة النطاق ومشبوهة المعنى، على "مثالية" قد يتحقق البعض منها.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات