إيران وتناقضات المشروع، بين هشاشة الداخل وأوهام التوسّع

في أعقاب الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت الأراضي الإيرانية قبيل الفجر، عادت إلى الواجهة تساؤلات وجودية حول مسار الدولة الإيرانية منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979. لم يعد الحدث مجرّد حادثة أمنية طارئة، بل تحوّل إلى كاشف بنيوي لطبقات من التناقضات المتراكمة، التي حوّلت إيران من فاعل إقليمي طموح إلى أداة في معادلات القوى الكبرى وخصومها، فيما يتآكل نسيجها الداخلي بفعل الفشل التنموي والفساد الممنهج.

هذا المسار، الذي انطلق من التصادم الفكري والسياسي بين آية الله الخميني، المؤمن بـ"قدسية تصدير الثورة" كشرط وجودي لبقائها، وأبو الحسن بني صدر، رجل الاقتصاد والرئيس الأول، الذي دعا إلى تأسيس دولة ترتكز على مقومات اقتصادية واجتماعية متينة، قاد إلى واقع مأزوم تتبدّى ملامحه في هشاشة أمنية صارخة، تُجسّدها سلسلة من الاغتيالات التي طالت كبار القادة والعلماء في العمق الإيراني ذاته، مقابل عجز عن تقديم ردع عسكري ذي أثر. أما على المستوى الاقتصادي، فتكاد معادلة الفشل تكون كاملة، رغم ما تملكه البلاد من ثروات نفطية، بفعل عقود من الحصار الاقتصادي والدبلوماسي، الذي فرضته سياسات العداء وتصدير الأزمات.

وقد أسهم الخطاب الراديكالي المتشدّد، والممارسات التوسعية ذات الطابع الطائفي، في تقديم إيران إقليميًا ودوليًا كـ"خطر دائم" يهدّد جيرانها العرب و"الكيان الصهيوني"، وهي صورة وظّفتها تل أبيب ببراعة، لتصبح ورقة رابحة في الحملات الانتخابية، وأداة لتوحيد جبهاتها الداخلية المنقسمة، كما استُخدمت كرافعة تفاوضية في ملفي النووي والتسليح. وإلى ذلك، صارت طهران تُحمَّل مسؤولية أزمات الطاقة والتضخم في عدد من الاقتصادات الكبرى، في عملية إسقاط سياسي واقتصادي تتجاوز المنطق أحيانًا.

في المقابل، تستنزف إيران مواردها في مشاريع توسعية عقائدية تستهدف "تشييع السنّة" بدل الانخراط في مشروع أوسع لـ"أسلمة الخصم الحضاري"، وهو نهج يستحضر في المخيال العربي الجماعي إرثًا تاريخيًا مثقلًا، كما في تجربة "القرامطة" وهجومهم على الحرم المكي، ما يعمّق العداء الطائفي، ويُعزّز العزلة الإقليمية، ويُقوّض فرص قيام مشروع إسلامي جامع.

تتجلى ذروة هذا التناقض في التدخل الإيراني في سوريا، حيث ضخّت طهران دعمًا ماليًا وعسكريًا هائلًا لنظام الأسد، تحت شعار حماية "محور المقاومة" والحفاظ على الممر الجيوسياسي الواصل بين طهران وبيروت عبر بغداد ودمشق، فيما يربط روسيا والصين بالبحر المتوسط. غير أن هذا الانخراط الكثيف يخفي خللاً استراتيجيًا فادحًا: فهل بوسع نظام يتكئ على "التقية" بمفهومها السياسي الشامل، أن يوازن بين خطاب ثوري متصلّب وبراغماتية ميدانية واقعية؟ فالتراجع الإيراني المحتمل في سوريا أو سقوط النظام الحليف هناك، يعني كسر هذا المحور الحيوي، وقطع الوصل الجغرافي الذي يربط إيران بالعمق المتوسطي لحلفائها، وبالتالي تحقيق أحد الأهداف الاستراتيجية للغرب، والمتمثل في عزل طهران عن حلفها الشرقي وتقويض احتمالات تشكّل محور إيراني–روسي–صيني قادر على موازنة الهيمنة الغربية المتآكلة.

وتحت هذا التعقيد الإقليمي المتزايد، يبرز السؤال التالي. إلى أي مدى ستزال استراتيجية "التشييع" صالحة كأداة للنفوذ؟ فعلى الرغم من تحقيق بعض الاختراقات في بيئات هشة، إلا أن المشروع فشل في النفاذ إلى المجتمعات السنّية الكبرى، وأنتج تأثيرات عكسية تمثلت في تعميق الهوة مع العالم العربي السني، وتغذية التطرّف، واستنزاف مقدّرات الدولة المنهكة أصلًا تحت عبء العقوبات والفساد، في ظل طبقة دينية مترهلة، حولت الحسينيات والمؤسسات الوقفية إلى أدوات للتربّح وتكريس النفوذ، في تناقض فجّ مع خطاب العدالة الاجتماعية الذي رُفع مع الثورة.

وهكذا، تقف إيران اليوم عند مفترق طرق وجودي. فالهجوم الإسرائيلي الأخير ليس سوى عرضا لعلّة أعمق، تتمثل في ثلاثية متشابكة من التناقضات. أولها، المفارقة بين خطاب مقاوم متشدّد وواقع داخلي هشّ تنخره الاختراقات الأمنية والانهيار الاقتصادي؛ وثانيها، الفجوة بين نفقات التمدد الإقليمي والانحدار الحاد في مستوى معيشة المواطن الإيراني؛ أما ثالثها، فالتناقض البنيوي بين مشروع الهيمنة الطائفية والنتائج العكسية التي أنتجها من عزلة واستنزاف.

إن الاستمرار في هذا المسار، القائم على "تقية استراتيجية" والرهان على أوراق الآخرين، لا يهدد فقط مشروع "تصدير الثورة"، بل يضع كيان الدولة الإيرانية برمّته على المحكّ، محوّلًا إياها من "قلعة مقاومة" إلى حصن منهك، تتآكله أزماته الداخلية ويُطوّقه خصومه من الخارج.

يبقى السؤال الأخير. هل تُدرك النخبة الحاكمة في طهران، المستفيدة من الوضع القائم، أن جدار "التقية" الذي شيّدته بدأ يتصدّع؟ وهل تمتلك ما يكفي من الوعي والجرأة لإجراء مراجعة شاملة تتجاوز التكتيك السياسي إلى إعادة تعريف جوهرية للمصلحة الوطنية الإيرانية، في عالم يعاد تشكيله على أسس جديدة، لا مكان فيه لأوهام الماضي ولا لصراعات الهوية المؤجلة؟

ملاحظة: تعرّف على ما يجري في ايران من أبناء جيلي في بداية الثمانينات من خلال الزخم الإعلامي آنذاك، وحيث كانت كُتب علي شريعتي ("فلسفة الهجرة") وباقر الصدر ("فلسفتنا"، "اقتصادنا" و"مجتمعنا") متاحة في مكتبة الكلية بالمركب الجامعي قبل أن تُسحب في التسعينات. وكانت هذه الكُتب مختلفة في مناهجها ووقعها وعمقها عن الكتب الأخرى المسيطرة في ذلك الوقت.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات