أنصاف الأدمغة، وأنصاف المواطنين !!!

متحصّل على أعلى الشهادات العلمية – مهما كان المجال- ولا يربط بين (1) ما له من "تحصيل معرفي" وما يقتضي من صرامة في التفكير والتثبّت في دقائق الأمور وصحّتها والتمييز بين ما هو سطحي وما هو عميق، وما هو زائل وما هو هيكلي من ناحية وبين (2) محيطه من ناحية أخرى بما فيه من تناقضات ومستويات ذهنية متنوّعة، ولا يُدلي برأيه "العلمي" عمّا يقع في محيطه، فانّه لا يسوى شيئا كثيرا ولا تتعدّى قيمتُه ان تكون هدرًا للسنين الطوال التي قضّاها للحصول على تلك "الشهادة الجامعية" وانّ الكُتب والمراجع المصفوفة في دُرّج مكتبته والروابط في شبكة النّت التي يتصفّحها قد تكون ذات قيمة أفضل منه لأنها ممتلئة بالمعلومات ولكنّها على الأقل لا تساهم بالضرورة – الاّ لمن أراد ذلك- في تدهور الوعي وفي الوقوف ضدّ التحرّر من العُقد والسطحيّة في التعامل مع الواقع الاجتماعي وفي الجنوح الى الانتهازيّة الى أن يُفقِدَ إنسانِيتَه قِيمَها ويصبح في أفضل الحالات مُحاكيًا للآلة التي -مها كانت قُدراُتهُ الذهنية الميكانيكية- لن يكون أداؤه أفاضل منها.

وأعتقد أنّ ذلك ناتج من سبب رئيسي وهو انّ العديد ينسون أنّ استكمال "المسار المعرفي" (Processus Cognitif) لا يتمّ الاّ بالتحقّق من المعارف المتحصّل عليها في "إطار المجتمع" (Validation Sociale de la Science). فلا يمكن للمتخصّص في الفيزياء ان يتحدّث في القضايا الاجتماعية والسياسية الراهنة في تونس مُقتصرا على ظواهر الأشياء وتداعياتها بدون الرّجوع لأسبابها الموضوعية في نظرة نظامية،

ولا يُعتبر الاقتصاديُّ المتخصّص في "التوازن العام" مثلا – وهو اختصاص دقيق ويحتاج الى عُمق في التفكير واستعمال مكثّف للرياضات"، لا يمكنه ان يكون "اقتصادّيا" ولا يقدر على فهم الواقع الاقتصادي التونسي الحالي – وليس الماضي- وهو الذي لا ينفكّ عن القول: "البورقيبية لا تموت أبدًا" مهما كان موضوع النقاش ومهما كانت الاحداث، مع "تخميرة" "تونس قبل خير" و"هاذوما فاشلين" و”فاسدين”، و"اللي حرق روحو اليوم يستاهل"- والتي لاتُقال حتى لعدوّ- وهو الذي لم يعبّر يوما عن واقعه الاجتماعي بحلوه ومُرّه.

ألهذا الحدّ يفقد المثقّف انسانيّته ليقول ضحل القول؟ ألا يملّ من اعادة نفس الجمل الفاضية والتي قالها سياسي واستبطنها سطحيّ وأعادها هو. فما الفرق بينه وبين الأُمّي الذي لم تطأْ قدماه المدرسة والذي يقتصر وعيه على الحدّ الأدنى من الاكل والسّكن والنقل. تراه عاجزا على تثمين ما تعلّمه من مفاهيم اقتصادية ومناهج علمية دقيقة وهو الذي كتب مقالات "علمية" ولستُ متأكّدًا من فهمه للعلم ولدور العلم في تحرّر الفكر.

هؤلاء ليس لهم وسع النظر ولا الحكمة في الادلاء بالمواقف المعتدلة وليست لهم مساهمة في الرّقي الاجتماعي، بل هم عالة على المجتمع. فما الفرق بين أستاذ الفلسفة (التي تعني: حُبَّ الحكمة) الذي يدافع عن شيء يجهله. ذلك انّه يُرحّب بواقع الاستثناء الغريب الذي يعيشه التونسيون حاليا ويعبّر عن انتشائه بضرب أو ازاحة "الأحزاب السياسية” من دورها الطبيعي و"بارتهان مستقبل البلد الى المجهول" لأنّه لا يعرف حتى ما هي القرارات التي ستُتّخذ في المستقبل القريب، وهي قرارات تخصّه هو بالذات وكأنّه فوّض من يفاوض مستقبله مكانه، وهو التعريف البسيط “لواقع العبيد” الذين لم يكن لهم الحقّ في التفاوض حول واقعهم لانّهم باعوا ذواتهم مقابل الحماية والاكل والشرب.

مثلهم كمثل وسائل الانتاج المُستعملة في الزراعة !.. ما الفرق بينه وبين ما يجول في فكر "لجان اليقظة" في التسعينات الذين جنّدهم النظام وليس لهم الوعي بأهداف تلك المهمّة سوى التجسّس على المواطنين والضغط عليهم بإقناعهم أنّ “المْعلّم باهي والمعارضة خايبين ويحبّوا يقتلوه”، حيث ضاق سُكّان الاحياء بهم ذرعا لتعسّفهم استعمالهم "للسلطة" وهم منتشرون ليلا في كل الأماكن وذلك طيلة سنين…

هذا، ولماذا الحديث عن التنمية وعن رأس المال البشري وعن إصلاح التعليم والصحّة... اعتقد انّ الحديث عن هذه المواضيع انّما هو من قبيل الهرطقة واضاعة الوقت. فلم تنجح إصلاحات ولا بطيخ في التاريخ دون شعوب استفادت من الحدّ الأدنى من نخبة واعية تبُثُّ الحكمةَ وتعمّق فهم النّاس بقضاياهم المشتركة…

تبًّا لهذه الشهادات العلمية الخاوية من محتوى اجتماعي، والتي أهدتها المؤسّسات الجامعية لأنصاف الأدمغة، وأنصاف المواطنين…

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات