الشرخ بين شباب اليوم وكُهول الغد

بقطع النظر عن الحالات المُنفردة من ذوي الفكر الثاقب والطاقات الواعدة، لا أعتقد أنّ فشل النظام السابق في تحقيق أهدافه المُعلنة والمتعلّقة بالشّباب في مجالات التربية والتعليم، والرّياضة، وتنمية رأس المال البشري، والابداع، والريادة والمبادرة والفن، والتشغيل، والاندماج الاجتماعي، والحريّة الاقتصادية، والمصعد الاجتماعي والسُّلّم القيمي، وبناء الشخصية العلمية المتوازنة، هو السبب الوحيد للفظ الأجيال الشبابية المتعاقبة منذ التسعينات للنخبة السياسية أو بالأحرى للــ "سّسْتم"، ببروز :

(1) التوصيم في الفضاء العام و

(2) تبني تعابير ثقافية (لغةً وهنداما وذوقا وتفاعلا) تكاد تكون كونية في ظل واقع متصاعد التعوْلم والتداخل والتقارب في المسافات. فيوم 14 جانفي، لمّا كان شبابٌ لطيف وجميل يعزف بعضُه أنغاما موسيقية في شارع الحبيب بورقيبة تحت أشعة شمس خفيفة، أيقنتُ أنّ هذا الجيل له خصوصياتُه ومرجعياتُه وكُنهَهُ التي يجهلُها صُنّاع القرار أنذاك والذين بدوْا خارج السياق التاريخي لديناميكية المجتمع.

هذا، كما أعتقد أنّ الفُرصة المهدورة التي أتيحت للبلاد منذ عشر سنوات لانخراط الشباب وتشريكه في إعادة النظر في العلاقة بين الناس والدولة قد عمّقت الهوّة بينهما، بحيث هرب كلاهما الى الامام وانفصلا الى غاية يصعب الالتقاء. ذلك أنّ كلاّ منهما لا يعتمد نفس النظام اللغوي ولا نفس المفاهيم والمفردات، فضلا عن الاهتمامات والاولويات.

فهذا يستهويه الاهتمام بواقعه وكيانه وأحلامه والطاقة الكامنة فيه واستعداده لشق البحر بطريق يبنيها، والأخر يُطنب في الحديث عن قانون المالية والكتلة الأجرية والترقيم السيادي واستقلالية البنك المركزي. وهذا فاقد السند والتأطير الفكري يرى أعزّ من له من أقربائه يحتضر بدون القدرة على حمله فورا الى المستشفى الجامعي غير الموجود في شمال غرب البلاد، أو في جنوبها أو في جنوب شرقها، والآخر يحدّثه عن "الهريسة التونسية" قد صُنّفت عالميا كتراث وطني، وأن هناك قرضا من البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير لصيانة مسلك فلاحي في الرّوحية، وأنّ الحرب ضد الكورونا تخضع لسلوك المواطنين…. فتتصاعد المبادرات المتحدية للدولة من عنف بمختلف أشكاله، وحوز للفضاءات العامة المشتركة، وتوسّع نطاق لأنشطة الاقتصادية غير المرحّب بها من القطاع "المهيكل"، المدفوع بالصّراع من أجل الحياة…

واعتقد كذلك، من خلال انتقالي بين بعض الدّول خاصّة العربية منها خلال الأعوام الأخيرة، أنّ هذا الأمرَ ليس خاصّا بتونس، بل يكاد يأخذ بُعدا إقليميا ان لم يكن أكثر توسّعا في المجتمعات ذات نسبة الشباب الأعلى وذلك باختلاف هامش المناورة المتاح للشباب. وما ظاهرة :

(1) الصّعود اللاّفت للأحزاب الجديدة المناهضة للـ "سِّسْتم"، و

(2) توسّع نطاق الجمعيات الأهلية (المجتمع المدني) وتجاوز أنشطتها الحدود الوطنية، و

(3) سُهولة بُروز "صُنّاع رأي" بدون رصيد يُذكر، و

(4) قدرة التيارات الشعبوية على تعبئة واستقطاب الشباب، و

(5) جُنوح الشباب الى الهجرة بحثا عن رحاب أوسع، الاّ دليل على عجز الدولة في القيام بمهامها البدائية.

وأخيرا، أعتقد أنّ الشرخ بين شباب اليوم وكُهول الغد، وبالتالي المجتمع برمّته من جهة، والدّولة من جهة أخرى سيتوسّع أكثر فأكثر ما دامت الحالة على ما هي عليه الآن وما دامت الأفعال مُصرّفةً في المستقبل الذي لن يتحقق.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات