حد ادنى من الاطلاع وحد ادنى من القدرات التحليلية

اعتقد انّ الخوض في مسائل متعلقة بالشأن العام مهم لعموم الناس، إذ يدل على انخراطهم فيه بسبب الانتماء او حق المواطَنة أو حق الحسم في القضايا أو الرغبة في المساهمة في التغيير. وهذا امرٌ محمود بطبيعة الحال. لكن لو دقّقنا في المسألة لوجدناها سلاحًا ذا حدّيْن. ذلك ان اي مسألة تحتاج الى حدّ معين من كمية المعلومات الموثوقة او المعارف الثابتة (وهو شرط لازم) وحد ادنى من القدرات الذهنية او التحليلية (وهو شرط كافٍ).

فلا يمكن ان يحسم أحدُنا في الماركسية -مثلا- وهو لم يقرأ كتابًا واحدا لماركس، ولا في القرآن وهو لم يقرأه، ولا في العلمانية وهو لا يحمل عليها الاّ بعض الافكار الغامضة مرجعها الفيسبوك، ولا في تاريخ البلاد وهو لا يمتلك الاّ بعض الذكريات من برامج التلفزة التونسية، ولا في طارق بن زياد انطلاقا من برنامج "تحت السور" -وهو حقيقة برنامج تحت السور- وكلام رجاء فرحات ولطفي لعماري، غير الموثوقيْن، باعتبار عدم اختصاصهما اجندتهما المكشوفة، ولا في استقلالية البنك المركزي بالاستماع الى كسيلة عام 2012 (الذي يبدو غائبا عن الساحة)، ولا في اداء اردوغان ومآله بدون معرفة المشهد السياسي في تركيا ولا التحالفات الحزبية وخلفياتها ولا اجندات وسائل الاعلام العالمية والمحلية المؤيدة والمعارضة، ولا فيما عُرف عند الاعلام بنظرية التدافع، او نظرية ادارة التوحش او السلفية الجهادية بدون قراءة سطر واحد عنها،…

اعتقد كذاك، ان الخوض في مناهج بناء الدولة لا يمكن ان يحصل الا بالاطلاع الشخصي على أسس نظرياتها ومسارات استقرار مفاهيمها عبر التاريخ والنظم السياسية المتعاقبة، كما لا يمكن الحديث عن اسباب المستوى المتدني للترجي امام الاهلي اذا كان المتحدث غير مطلع عن المشاكل التنظيمية داخل الفريق وعن الظروف التي لعب فيها اللاعبون… وكل ما سبق من المجالات يحتاج اطلاعا واختصاصا...

هذا، واذا فُقدت المعلومات وقلّ الاطلاع فانّ المواقف ستكون سريعةً، جزئية، ذات الافق الضيق وعرجاء، لانها تساهم في تشيكل وعي سطحي وتكبل ارادة الناس وتجد حينئذ الاشاعاتُ "محضنة" اجتماعية، ويتم من خلالها التعامل على نفس قدم المساواة بين النزيه والماكر، والعالم والجاهل، والمؤدّب والمتهوّر، … فتُفقَد الثقةُ بين الناس، ويُصبح التعامل بينهم أداةً للتصنيف قبل الفهم، ويضيع جوهر القضايا المشتركة في متاهات يستثمرها المتربّصون.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات