في الحاجة إلى قراءة مركبة لفهم تعقيد الواقع التونسي من خلال د. قسومي.

اطلعت مؤخرا على الحوار الذي ادلى به د. قسومي في قناة الزيتونة وما كانت له من ردود أفعال متباينة. وفي هذا الصدد ما احتفطت به هو سؤال، اعتقد انه مهم، يتمحور حول الاتي. هل تملك الأدوات الماركسية التقليدية القدرة التفسيرية الكافية لاستيعاب تحولات ما بعد 2011 في تونس؟ وهل لا تزال المادية التاريخية، بصيغتها الأصلية، قادرة على احتواء ظواهر معقدة مثل الإسلام السياسي، والمجتمع المدني، وتحولات الدولة؟ هذه الأسئلة تتردد ضمن خطاب الدكتور مولدي قسومي، الباحث السوسيولوجي الذي يستعير من الماركسية العديد من أدواتها، لكنه يعيد ترتيبها في ضوء تساؤلات مستجدة فرضتها خصوصية الواقع التونسي.

هذا، وإن قسومي لا يمثل ماركسياً تقليدياً، بل قارئاً نقدياً يعامل التراث الفكري كأدوات عمل معرفية لا عقائد جامدة، ومن هذا المنطلق يمكن تفكيك اهم أطروحاته في الحوار حول الإسلام السياسي، والمجتمع المدني، والدولة، لتحديد المسافة الفاصلة بين تحليله والمنهج الماركسي الصارم.

(1) الإسلام السياسي، بين البنية والوظيفة

يرى قسومي الإسلام السياسي كظاهرة تاريخية لا تُفهم إلا في سياق انكسار مشروع الدولة الوطنية الحداثي، لا امتدادا لمسارات تاريخية قديمة وعميقة ومعقدة تتجاوز الحدود الجغرافية والزمنية التونسية. لكنه في نفس الوقت لا يعيد تفسيره من منظور طبقي بحت كما تفعل الماركسية التقليدية، بل يعالج الظاهرة بوصفها استجابة تنظيمية لفراغ حدث نتيجة إخفاق الدولة في توفير العدالة والمشروعية، اذ يقول إن "الإسلام السياسي ليس ابن القرآن، بل ابن لحظة اجتماعية تاريخية اتّسمت بتراجع المشروع الحداثي للدولة الوطنية.". (ندوة في بيت الحكمة، 2023). غير أن هذه الرؤية، التي تعتبر الإسلام السياسي نتاجاً لضعف الدولة، لا تختلف جوهرياً عن قراءات غير ماركسية، بل تتقاطع مع تحليلات برجوازية وفق المفهوم الماركسي، التي تنسب الظاهرة إلى اختلال وظيفي في أداء الدولة، لا إلى بنية السيطرة أو علاقات الإنتاج. ومن ثم، فإن قسومي يتخلى ضمنياً عن مقاربة الظاهرة عبر التحليل البنيوي الطبقي، مكتفياً بمستوى يتعلق بأزمة المشروع الحداثي للدولة.

ومن هنا، تتجلى المسافة التي يضعها قسومي بين تحليله والماركسية الصلبة. فهو لا يُخضع الظاهرة حصراً للبنية التحتية الاقتصادية في آخر المطاف (كما يبينه المسار اللولبي التصاعدي في مناهج ماركس)، بل يعاملها في سياق جدلي متعدد الأبعاد، حيث يتفاعل البُعد الاقتصادي مع البعد الثقافي والرمزي والهوية، بدون تراتبية ولا وضع الإصبع على المكون المهيمن (على عرار المناهج التحليلية الاستنباطية). فالإسلام السياسي عنده ليس "أفيوناً"، بل تعبيرا عن حاجات مجتمعية إلى التنظيم في لحظة فراغ سياسي.

(2) المجتمع المدني، نقد الحياد ووهم التقدم.

في تحليله للمجتمع المدني، يقدّم قسومي رؤية نقدية تُشكك في تصورات تُعلي من حياد هذا الفضاء وتجعله منفصلاً عن الطبقات أو السلطة. في الحوار، يؤكد ان "المجتمع المدني عندنا جزء من منظومة السلطة، ليس منفصلاً عنها. هناك مجتمع مدني يشبه الدولة، وآخر يشبه السوق، وما أقل المجتمع المدني الذي يشبه الشعب". بهذا التصريح، يعكس قسومي تأثراً بنظرية نقدية تتناول الأدوار التجميلية التي يؤديها بعض مكونات المجتمع المدني، خاصة تلك الخاضعة لتمويل خارجي أو المعزولة عن القاعدة الشعبية. ولكنه في المقابل، لا يدرج هذه الظواهر ضمن بنية طبقية منتظمة كما تفعل الماركسية الكلاسيكية.

فالخطاب الماركسي الكلاسيكي، كما عند إنجلز في "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" أو عند لينين في "الدولة والثورة"، يرى في المجتمع المدني امتداداً للبنية التحتية الاقتصادية التي تعيد إنتاج الهيمنة الطبقية بأشكال ثقافية وقانونية. وهو بذلك مساحة أيديولوجية تُشرعن بنية السيطرة الرأسمالية.

أما قسومي، فرغم نقده، فهو لا يُخضع المجتمع المدني لتحليل طبقي حاسم، بل يميّز بين تيارات داخله بحسب قربها أو بعدها عن القاعدة الشعبية، فيعتمد مقاربة أكثر سوسيولوجية متعددة الأبعاد، لا تحسم في تفسير الظاهرة من زاوية الصراع الطبقي الحصري.

(3) الدولة، بين الرؤية الماركسية التقليدية وإعادة التفسير

ينتقد قسومي الدولة التونسية من موقع مزدوج. فهي في نظره فاشلة في التحديث ومأزومة في المشروعية. لكنه لا يعاملها كجهاز قمع طبقي صارم كما في الماركسية الكلاسيكية، بل يعيد تصوّرها كأفق قابل للإصلاح من داخل منطق التمثيل والمؤسسات، لا من خارجه. ففي الحوار يقول، "نحن نعيش حالة انزلاق نحو دولة استثنائية تُدار من فوق، لا تمثل مصالح أحد، ولا تنتج معنى جامعاً." اد ان هذا التصور يقطع مع المفهوم الماركسي للدولة بوصفها جهازًا طبقيًّا قمعيًا نشأ مع انقسام المجتمع إلى طبقات ويدير مصالح الطبقة المالكة. فالدولة في هذا الإطار ليست ممثلاً محايداً، بل تجريد قانوني للهيمنة الطبقية يعكس صراعات البنية الاجتماعية.

ولا يغيب عن البال أن ماركس نفسه، في مراحل متأخرة من حياته، أدرك وجود نماذج إنتاج اجتماعي مختلفة جوهريًا عن تلك التي شكلت أساس تحليلاته الأولى، ما يعكس حدود بعض الإطارات التحليلية التقليدية ويستدعي تجديدًا مستمرًا للنظرية الاجتماعية لمواكبة تعقيدات الواقع (McLellan, 1973) .

قسومي، إذن، متأثر بمنظور عقلاني-إصلاحي، يرى الدولة ليست أداة قمع بقدر ما هي جهاز مشروع يعاني أزمة وظيفية بحاجة إلى إصلاح وتمكين التمثيل العادل، ما يبعده عن تصورات ماركسية تقليدية عن الدولة بوصفها جهازًا لإعادة إنتاج السيطرة الطبقية.

(4) التحديات المنهجية ومحدودية الاستفادة من الأدبيات الحديثة في علم الاجتماع السياسي.

على الرغم من حداثة المواضيع التي يناقشها قسومي، يبدو أنه لم يستفد بشكل كافٍ من الإسهامات النظرية الحديثة في علم الاجتماع السياسي ، ولا من النماذج التي توسع فهم الدولة، الإسلام السياسي، والمجتمع المدني خارج الإطارات التقليدية أو الماركسية الصلبة.

فمثلاً، يؤكد(Bourdieu) على أهمية "الرأسمال الرمزي" وديناميات السلطة الثقافية التي تفسر أشكال الهيمنة في المجتمعات المعاصرة، متجاوزة التحليل الاقتصادي البحت. كما يشير (1961، Dahl) إلى تعددية الفاعلين السياسيين داخل المؤسسات الديمقراطية، حيث لا تكون البنية الطبقية هي الفاعل الوحيد أو الأساسي.

وإضافة إلى ذلك، تقدم (Dreyfus, 2010) . تحليلاً معقداً للمجتمع المدني كفضاء متعدد الأبعاد يتقاطع فيه الفعل السياسي والاجتماعي، متجاوزة النموذج الأحادي للصراع الطبقي أو الأدوار المؤسسية التقليدية.

وبالمقارنة، تبقى تحليلات قسومي في إطار تقليدي نسبيًا، وتعتمد على قراءة مباشرة للأدوار الاجتماعية، دون إدماج الأبعاد الرمزية أو التحليل المؤسساتي العميق، مما يحد من قدرتها على استيعاب التعقيدات المعاصرة للواقع التونسي.

(5) إطار تحليلي ومنهجي في تقييم الخطاب

لا يمكن تجاهل السياق الذي يُطرح فيه خطاب قسومي، إذ كان يتفاعل ضمن حوار ذي طابع استجوابي مباشر، ما يفسر جزئيًا التبسيط النسبي أو الاختزال في عمق التحليل، وغياب الإحالة الموسعة إلى الأدبيات المعاصرة في علم الاجتماع السياسي. هذا السياق الإجرائي قد يشكل إطارًا يسمح بفهم محددات التصور وعدم استعداده للخوض في تعقيدات نظرية متقدمة.

مع ذلك، يتعين التأكيد على أن الواقع السياسي والاجتماعي في تونس، لا سيما ما بعد 2011، يتطلب تحليلاً منهجيًا أعمق وأشمل، يدمج بين البُنى الاقتصادية والسياسات الثقافية والمؤسساتية والرمزية، بما يسمح بفهم دقيق ومتكامل لتعقيدات الإسلام السياسي، والمجتمع المدني، ودور الدولة.

كما يمكن ربط هذا النقص في التطوير النظري بمأزق أوسع لفشل اليسار السياسي في العالم العربي، الذي يمكن تفسيره جزئيًا بالتباعد بين النظريات الماركسية التقليدية وواقع التحولات الاجتماعية والسياسية الراهنة، حيث بقي الكثير من اليسار متمسكًا بروايات قديمة لا تستجيب لتغيرات البيئة السياسية والثقافية، ما أفقده القدرة على التفاعل الحيوي مع التحولات الشعبية والمجتمعية (Andoni, 2017)

أخيرا، يشكل خطاب قسومي نقطة انطلاق معرفية هامة، لكنه بحاجة إلى تطوير منهجي يُثري التحليل بإدماج إسهامات علم الاجتماع السياسي الحديث، واستخدام أدوات تحليلية متقدمة قادرة على مواكبة تعقيدات التحولات السياسية والاجتماعية الراهنة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات