كل القيم الإنسانية والأديان السماوية تدحض التمييز العنصري

من المرجّح أن العنصرية وسائر مظاهر التمييز الاجتماعي ترسّخت بالتوازي مع نشوء الدولة، إذ كانت هذه الأخيرة استجابةً للنزاع حول توزيع فائض الإنتاج الاجتماعي (Surplus Social) الناجم عن أول تقسيم اجتماعي للعمل في التاريخ، والذي أدى إلى ارتفاع إنتاجية العمل الاجتماعي. وفي هذا السياق، تخصّصت المرأة في تدجين الحيوانات ورعايتها، بالإضافة إلى الأنشطة الزراعية، بينما تخصّص الرجل في صيد الحيوانات. وقد أسفر هذا التقسيم عن ازدياد الثروات إلى ما يتجاوز حدّ الكفاف، مما أثار نزاعات حول "الملكية"، مقارنةً بالنظام السابق القائم على الملكية الجماعية أو المُــشاعة.

هذا، وقد كان للدولة، باعتبارها مؤسسةً لحسم النزاعات في بداياتها، دورٌ محوريّ في ادّعاء الحياد وفرض واقع جديد عبر السلطة الصلبة والأيديولوجيا، بما يخدم الفئة الأكثر استفادة من مفاتيح التوزيع. وللحفاظ على هذه المفاتيح – غير العادلة – استخدمت المجتمعات البدائية أدواتِ تبريرٍ متعدّدةَ الأشكال، كإرادة السماء، والوثنية، والعصبية القبلية، والاغتراب الدموي... ومع مرور الزمن بمفهومه "الاجتماعي-التاريخي" (Le Temps Socio-Historique)، لعب الاستعمار، باعتباره قوةً مهيمنة، دورًا مفصليًا في ترسيخ التمييز بين البشر، وهو تمييز عُــنصري، إذْ ربطَ أوضاعَ ضحاياه بأيديولوجيات مختلفة تهدف إلى جعلهم يتقبّــلون وضعَهم الأدنى وكأنّه أمرٌ مقدّر من السماء.

وقد انعكس ذلك في ممارسات مثل تجارة البشر التي اتسعت جغرافيًا، كما هو الحال في التجارة الثلاثية خلال الحقبة المركانتيلية. كما عزّز الاستعمار الأوروبي في إفريقيا خلال القرنين الــ19 واالــ20 نزع الصفة الإنسانية عن السكان المحليين عبر :

(1) الأيديولوجيات العُــنصرية القائمة على "الداروينية الاجتماعية" وأسطورة "المُــهمة الحضارية والتنموية للمُستعمر"، التي برّرت الهيمنة من خلال إنكار الثقافات الإفريقية.

(2) تشييء الأفارقة (Chosification des Africains) عبر معارض "حدائق الحيوان البشرية" (Zoos Humains) وهي عبارة عن معارض عامة لأشخاص غير أوروبيين، أقيمت بشكل أساسي في أوروبا وأمريكا الشمالية بين القرن الــ19 وأوائل القرن الــ20. وقد ساهمت هذه التصورات العنصرية المهينة للإنسانية في تعزيز الصور النمطية حول تفوق العرق الأبيض وتبرير الاستعمار. كما تمّ استخدام مفردات حيوانية لوصف القبائل الإفريقية، مما قلّل من شأنهم وحوّلهم إلى كائنات "غريبة أو طفولية"

(3) الفصل القانوني، مثل قانون (Indigénat)، والعمل القسري، والضرائب التمييزية، ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، مما أدى إلى عزل السود في المناطق المهمّشة.

(4) الاستغلال الاقتصادي عبر العمل القسري في المزارع والمناجم ومصادرة الأراضي، ما تسبب في إفقار السكان.

(5) التدمير الثقافي، بحظر اللغات والروحانيات المحلية من قبل البعثات المسيحية، واحتواء التقاليد الإفريقية في نطاق الفولكلور.

(6) المقاومة والإرث، حيث برزت حركات مناهضة للاستعمار، مثل إيمي سيزير وحركة "الماو ماو" في كينيا، إلا أن الآثار اللاحقة للاستعمار – مثل العنصرية البنيوية، والحدود المصطنعة، وعدم المساواة – لا تزال قائمة.

في القرنين الــ19 عشر والــ20، ساهم بناءُ الهويات الوطنية والنظريات العلمية "الزائفة" في شرعنة سياسات الفصل العنصري. أما اقتصاديًا، فقد كانت العُــنصرية أداةً للحفاظ على علاقات القوة والاستغلال. كما أن الآليات النفسية، مثل التحيز الجماعي، عزّزت التمييز غير الواعي. ولقد استغلّ الاستعمار إفريقيا عبر سرديات التفوق العنصري، مما ترك نُــدوبًا دائمة تسلّط الضوء على التفاوت العالمي الحالي. والمفارقة أن البشرية، رغم تحقيقها تقدمًا علميًا وثقافيًا وفرضها احترام الآخر عبر العديد من المؤسسات، لا تزال تعاني من إرث قرونٍ من الشيطنة والاستغلال المنهجي، مما ترك أثرًا عميقًا في اللاوعي لدى شريحة من السّكان، حتى بين المتعلّــمين، فجعلهم حسب رأيي عضويًّا عنصريين" لما نقرأه من تدوينات في الفيسبوك خارج التاريخ والأخلاق والرجولة؛ تدوينات يندى لها الجبين.

فكل القيم الإنسانية والأديان السماوية تدحض التمييز العنصري، ومع ذلك، يخلط الكثيرون بين "ضرورة احترام الإنسان لأخيه الإنسان" وبين "المعطى الأمني" الذي هو من اختصاص الدولة وليس عموم الناس. صحيح، أنّ الحروب الاستراتيجية ثلاثية الأبعاد (المياه، الديموغرافيا و الطاقة) وهذا يحتاج الى تفصيل، لكن الحد الأدنى من الاتساق في التفكير "الجزئي" يقتضي التنديد بتدفّقات الهجرة غير النظامية للتونسيين نحو جنوب المتوسط بنفس الطريقة التي يُندَّد بها بتدفّقات المهاجرين من جنوب الصّحراء إلى تونس. فإذا كانت الهجرة ظاهرةً إنسانيةً وأنثروبولوجية لا يمكن ردّها، فلا يمكن التعامل معها بعُــنصرية، مخافة العودة إلى عصور ما قبل الحداثة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات