لماذا الاصرار على "العودة"؟

في عام 2013، كنت في تونس أترددتُ على المقاهي التي تحولت الى منابر وحلقات نقاش يومية حول الوضع السياسي في البلاد والمآلات التي تنتظر التونسيين… وخلال تلك الفترة لاحظت من خلال التلفاز المشغّل طيلة اليوم في العديد من المقاهي أنّ اعادة بث أغنية "وحشاني بلادي" للمغنية "كارول سماحة" بوتيرة عالية جدا، أمرٌ لافتٌ.

بحثت عن تاريخ انتاج هذه الاغنية فوجدت انه كان بعد اندلاع الثورات العربية تقريبا بعام من تولي نخب سياسية صاعدة الحُكم في بعض البلدان العربية، ثم دققت في كلماتها ونوعية لحنها:

- اللحن: مَطلعُه من اغنية لأم كلثوم (ليلة حب) وهو موجود في الذاكرة الجمعية، وبالتالي تكون الاغنية سهلة التقبّل بما تتضمنه من كلمات ورسائل.

- الاخراج والمحتوى: فنيا جميل وفيه تقنيات تصوير عالية وموارد مالية وبشرية عالية التكلفة لكنه لا يتماشى بالضرورة مع كلمات الاغنية البسيطة جدا، اذ ليس هناك كلمة واحدة في الاغنية من جملة "نصنع الحرية معًا" الواردة في الشريط! ويتضمن الاخراج أساسا مسيرة عودة -بدأت ليلا من راس جبل- الى البلد الاصلي سيرا على الاقدام لأناس (او لشعب، او لفئة) في شكل لاجئين كانوا فرادى ثم تكاثروا، ولكن ليس لهم اي هوية محددة. تقودهم امرأة رافعة لافتة بيضاء مرسوم عليها المطالبة بصناعة الحرية.. الى ان يصلوا الى حائط (جدار، حاجز) عال جدّا وفيه اسلاك شائكة.

ولا اعتقد انه يرمز لا لحائط برلين ولا للجدار العنصري العازل في الضفة الغربية ولا لسور الصين، باعتبار ما جرى من احداث خاصة في مصر. ثم تُخرجُ الفؤوس (رمز القوة الصلبة وتهشيم الحواجز وكذلك القوى العاملة) ويُحطّم الجدارُ ويدخل العائدون الى "بلدهم" فجرا (رمز التفاؤل واعادة الولادة من جديد) وتنتهي الاغنية بتعبيرات النصر والفرح الدائم…بعودة الى الزمن اقرب منها الى المكان.

تساؤلات عديدة : لماذا الاصرار على بث الاغنية الى ان حفضها كل الناس (مع التعويل بطبيعة الحال على الذاكرة البصرية)؟ ولماذا الاصرار على "العودة"، وهو لا يرمز حتما الى حق عودة الفلسطينيين المطالَب به منذ عام 1948؟ ولا الاشخاص المستفيدين من اللجوء السياسي، ولا المُهجّرين قسرا الذين ليس لهم اقامات في بلد المهجر. وما هي رمزية التوقيت؟

ومنذ ذلك الحين، بقيت انتبه الى الدور الذي يلعبه فنّانونا في تونس من مغنيين، ومسرحيين، واعلاميين وموسيقيين وشعراء تجاه الفضاء الشاسع من الحريات الذي كان متاحا لهم. فوجدت منهم (ولا اعمم بالطبع) أقزامًا في عالم العمالقة. ابرزوا افلاسا ثقافيا هيكليا وتبلّدا فكريا وانحيازًا للسطحية. بل، اتذكر ان بعضا منهم غنى في المباشر قصائد تثمن زمن المخلوع والمنشط يشكره على حسن ادائه.

وعموما، تمت محاصرة ارادة الناس في التوق الى غد افضل من كل الجوانب ومنها الفني والتثقيفي، وتمت مخاطبة اللاوعي الجمعي بهدف تحقيق حالة الخيبة والندم والرتابة والحنين الى المربع الاصلي. اذْ لم تع النخبة المثقفة في تونس بأهمية ارساء ثقافة وطنية تخاطب العقل وتحاكي الواقع وترتقي بالوعي الجمعي، ولم يع غالب الفنانين بأن ذلك هو المستديم، وانّ دور المهرّج والمرتزق انما يساهم بالقسط الوفير في التخلف، وانه كلما كانت سعة استثمار فضاء الحريات -مَهْمَا اتّسع- منخفضةً، كلّما اشتدّ الخناق على المثقفين انفسهم.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات