يوم أخر من أيام الوقوف في وجه الانقلاب

طبعا كنت أتوقع المشهد في كثير من تفاصيله، ولكن كان المشهد كان أكثر قتامة مما توقعت . اصطدمت انا وصديقي عمار بسيارتنا كغيرنا بسياج امني على مستوى باب سعدون على بعد كيلومترين من ساحة باردو.

اضطرنا إلى ترك سيارتنا وراء محطة اللواجات وسرنا مشيا على الاقدام ..دخلنا إلى نهج 20 مارس من نهج فرعي وكنا نسير بمحاذاة سكة المترو اعترضنا رجال الأمن بالزي المدني وبالزي الرسمي وطلبوا منا الرجوع على أعقابنا والدخول إلى شارع 20 مارس من المدخل الرئيسي للشارع المقابل لباب سعدون ..رفضنا الرجوع ..جرت مواجهة كلامية بيننا وبين ضابط شرطة طالبنا بالاستظهار ببطاقة التعريف توتر الجو وأصررنا على المرور تدخل ضابط أخر وطلب من زميله السماح لنا بالمرور ..فمررنا.

كان علينا قطع الطريق الفاصلة بين باب سعدون وباردو مشيا .. الشارع خال من أية عربة . أغلق الشارع في وجه كل العربات الداخلة من باب سعدون تركت مفتوجة في الطريق المقابل النازلة من باردو .. في الانهج الفرعية وضعت حواجز أمنية . منع الميترو من الوقوف في ثلاث محطات : محطة 20 مارس ومحطة بوشوشة ومحطة باردو . علمت أن هناك طوقا امنيا من الجهة الأخرى على مستوى السعيدية و الدندان قبل الساحة بحوالي كيلموتر.. وضعت هناك حواجز للتفتيش.

على مستوى جامع السلام الواقع في الجهة اليسرى من الشارع منع صف من فرقة التدخل رجلا جنب رجل بخوذاتهم وصدرياتهم ضد الرصاص المتظاهرين من التقدم..

يقع جامع السلام على بعد 200 متر من باردو سنتر وحوالي 400 متر من مقر المجلس وهو ما يعني أن المظاهرة كانت بعيدة عن المكان الأصلي الذي أعلمت به وزارة الداخلية ومنع المتظاهرون من الوصول اليه وهو الساحة الواقعة قبالة مقر البرلمان الذي ضرب عليه حصار امني أظهرته الصور المنشورة على الفيسبوك منذ ليلة أمس السبت. قضى كثير من أعوان الأمن الليلة في الساحة بحسب ما أعلمني به قريب لي يسكن في إحدى العمارات وفي شقة في دور علوي .

وسط الحشود اعتلى فوق بناية كشك صغير بعض الخطباء ..تبينت منهم جوهر بن مبارك الذي تحول الى زعيم حقيقي من زعماء مقاومة الانقلاب تكلم جوهر لم أكن أتبين بوضوح ما كان يقوله ولكن كنت أشاهد حماسه من خلال حركات يديه ومن خلال تفاعل الجمهور مع خطابه برفع شعارات أصبح احدها مصاحبا لكل المظاهرات " يا للعار يا للعار المسيرة في حصار " ثم شعار" دستور، حرية كرامة وطنية " الشعب يريد ما لا تريد " اعتلى البناية الصغيرة أيضا عبدالرزاق الكيلاني العميد الأسبق للمحامين والوزير السابق ألهب حضوره الجمهور وقد برز أخيرا من خلال نيابته لعامر عياد صحفي الزيتونة .ومساجين آخرين بعد 25 جويلية .


…

سرى بين المتظاهرين خبر التفكير في اعتصام غير انه كان من الواضح انه لا يمكن تنفيذ أي اعتصام في مكان المظاهرة أي على قارعة الطريق وهو امر مستحيل الا اذا تصورنا غلق المعتصمين للطريق في اتجاه الساحة ومنع حركة المرور المفضية إلى قلب العاصمة ..ويبدو أن المتظاهرين عمدوا إلى تسريب الخبر للتحميس على أساس تنضيج الفكرة لاحقا ..

كان عدد المتظاهرين بين 15 و 20 ألف متظاهر مع العلم ان شهود عيان اكدوا في شهادات متظافرة ومتطابقة أن السلطة عمدت إلى تطويق العاصمة وفصلها عن باقي البلاد . أفاد شهود عيان (مسافرون) في بوابة مدينة عرّام (بين مدنين وڤابس وهي نقطة يمرّ بها القادمون من تطاوين، بنقردان، جرجيس، جربة، مدنين…تبعد النقطة 450 كلم على العاصمة)، أنّه تمّ منع المسافرين، وخاصة المستقلّين للوّاجات من المرور باتجاه ڤابس ومن ثم العاصمة…وطالبوهم بالرجوع من حيث أتَوْا…على أساس أنها تعليمات.

ولكن المسافرين أصرّوا على حق المرور و على حريتهم في التنقل داخل بلادهم، وطالبوا بما يؤكّد مسألة التعليمات.

وبعد انتظار طويل وازدياد منسوب التوتّر اضطر المسافرون إلى غلق الطريق بسيارات الأجرة… سُمح لهم، بعد ذلك، بالمرور، في انتظار البوابات القادمة…

وهناك أنباء عن أنّ هذا المنع كان عاما منذ ليلة أمس ، ، على مستوى البوابات التي نصبتها الشرطة بين المدن والولايات. لمنع الوصول إلى العاصمة.

وبحسب شهادة أخرى كان ركاب القطار قد خضعوا هم ايضا مطولا الثالثة صباحا بصفاقس لعمليات تفتيش وبحث أمني (الهويات ووجهة السفر والغرض منه) وتم إنزال عدد من الركاب في المحطة لأسباب مجهولة

في محطة الوصول بتونس أيضا تم التعرض للركاب أيضا بالبحث الأمني وتفتيش أغراضهم.

قال لي شاب يشارك في المظاهرة أن والده القادم من المكنين محتجز الآن على مستوى بوابة أمنية في سيدي بوعلي حدثني شيخ قادم من غار الملح انه في عمره لم يشاهد حضورا امنيا على كامل الطريق من بنزرت إلى العاصمة كهذا الذي شاهده وان كل اللواجات خضعت للتفتيش وان بعض المسافرين من الشباب منعوا من التقدم .

قلت في تغطيتي للمظاهرتين السابقين يوم 26 سبتمبر و 10 أكتوبر أن السلطة صارت تتهيأ إلى أي تحرك باستعمال تكتيكا اصبح معهودا .. تدربت عليه بدقة : السماح للمتظاهرين بأقل عدد ممكن من الوصول الى مكان الوقفة الاحتجاجية وذلك باستعمال شتى أنواع المحاصرة والمراقبة والمنع ومن ثم تستعمل المظاهرة للتدليل على احترام الحريات خاصة للتسويق الخارجي .

قال لي صديق صحفي التقيته هناك في كثير من السخرية "هل تعرف يا أستاذ بماذا يذكرني تصرف السلطة هذا من خلال السماح للمظاهرة مع التضييق والمحاصرة ؟ قلته له " بما ؟ ". أجابني " يذكرني بما كان يفعله وزراء بن علي في الخارج حين تواجههم الصحافة الأجنبية باتهام النظام بمنع حرية الرأي والتعبير كانوا يخرجون لمخاطبيهم نسخا من جرائد الموقف ومواطنون والطريق الجديد حتى يؤكدوا لهم أن المعارضة تتكلم بحرية ..عادت إلى ذهني صور متداخلة عن حصار جريدة الموقف وعن ماتراك رجال بن علي والأساليب البولسية القمعية لعشرات السنين من التفرد بالسلطة …لن يكون هذا مصيرا لنا هذه المرة فملثما تدربوا على محاصرتنا تدربنا على مقاومتهم .

قالت وزارة الداخلية في بلاغها لها أن عدد المتظاهرين كانوا الفا …يا للسخرية .

انتهت الوقفة بوعد بأن المتظاهرين سيعودون إلى ساحة باردو وان الاعتصام قادم فيها وان المطلوب ألان نقل المقاومة الى داخل البلاد وحتى الى خارج البلاد رأيت في عيون كثر من الشباب صمودا وتحديا.

كنت أرى في العيونِ العَميقة لونَ الحقيقةِ …لونَ تُرابِ الوطنْ!

يسقط الانقلاب.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات