قيس سعيد و"نظامه القانوني ":" إِذَا أَرَادَ شَيْئًا يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ"

: «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ «
سفر التكوين ( 1 /4 )

دخول الدستور حيز النفاذ مسألة جوهرية وهامة جدّا في حياة البلدان و الدول لاسيّما اذا تعلّق الأمر بدستور جديد يحلّ محلّ سلفه وينشئ للدولة مؤسّسات مختلفة كلّيا عن التي كان أحدثها سلفه. فدستور 2014 احدث مثلا مؤسسات دستورية لم يعرفها دستور 1959 و بنى السلطة القضائية على قيم تختلف كليا عنه . فمتى دخل دستور 2022 حيز النفاذ موضوع الاستفتاء الذي جرى يوم 25 جويلية 2022 ؟

ويبدو لنا ان هذا السؤال وجيه و يستمدّ مبدئيا وجاهته من الاختلاف بين نصّ الدستور في الفصل 142 و بين كلمة رئيس الجمهورية قيس سعيد مساء يوم الأربعاء 17 أوت 2022 التي أدلى بها مباشرة اثر ختم الدستور حيث قال «هذا دستور الشعب يتمّ ختمه اليوم و إصداره لينطلق به العمل حالا » كل ذلك دون انتظار نشره مع العلم ان الإذن بالنشر لا معنى له إلا إذا وقع النشر الذي به تتحقق عملية النفاذ في قوانين الدولة. هذا ا إذا لم يقع التنصيص صراحة على ان نفاذ القانون او الامر يكون حال المصادقة عليه من المجلس التشريعي او المجالس المنتخبة.

ولسنا في حاجة الى التوسع في شرح كلمة «حالا » فهي تعني بصريح المنطوق ان ختم رئيس الجمهورية لدستور 2022 يعني اصداره و دخوله في الحين حيز النفاذ دون انتظار نشره بالرائد الرسمي في خلاف صريح مع الفصل 142 السالف الذكر الذي ينصّ على ان هذا الدستور يدخل « حيز النفاذ ابتداء من تاريخ اعلان الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات عن نتيجة الاستفتاء النهائية و بعد ان يتولّى رئيس الجمهورية ختمه و اصداره و الإذن بنشره في عدد خاص بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية و ينفّذ كدستور للجمهورية التونسية » علما و ان الاذن بالنشر ليس النشر. فدستور 2014 مثلا يفرّق بين العملتين اذ ينص في الفصل 147 على ان رئيس المجلس الوطني التأسيسي يأذن بنشر الدستور الذي يدخل « حيز النفاذ فور نشره » و يضيف هذا الفصل ان رئيس المجلس التأسيسي يعلن « عن تاريخ النشر مسبقا ».

هكذا وفي عجلة من أمره يعلن رئيس الجمهورية في موكب رسمي ( لم يحضره غيره ) عن دخول دستور 2022 حيز النفاذ في لحظة الختم دون انتظار أي إجراء آخر.

ومن الواضح أننا بإزاء مخالفة صريحة لنصّ الدستور الجديد قبل ان يجفّ حبره و هو الذي حرّره رئيس الجمهورية بنفسه فكتب أحرفه و صاغ مشروعه في نسخة أولى نشرت بالرائد الرسمي عدد 74 المؤرخ في 30 جوان 2022 لكن « تسرّبت اليها اخطاء » بحسب المصطلح الرئاسي الذي اصبح شائعا فتمّ اصلاحها في النسخة الثانية المنشورة بالرائد الرسمي عدد 77 المؤرخ في 8 جويلية 2022 و من بين ما تمّ إصلاحه مسألة دخول الدستور حيز النفاذ حيث كان الفصل 139 من الصيغة الأولى المنشورة في 30 جوان 2022 ينص على انه «يدخل الدستور حيز التطبيق ابتداء من تاريخ الإعلان النهائي عن نتيجة الاستفتاء من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات » ثم تغيرت الصيغة لتصبح في الفصل 142 من الصيغة المعدلة المنشورة في 8 جويلية كالاتي «يدخل هذا الدستور حيز النفاذ ابتداء من تاريخ إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن نتيجة الاستفتاء النهائية وبعد ان يتولى رئيس الجمهورية ختمه وإصداره و الإذن بنشره في عدد خاص بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية و ينفّذ كدستور للجمهورية التونسية».

وجلي من خلال الفصل 139 في الصيغة الاولى قبل تعديلها و من كلمة رئيس الجمهورية قيس سعيد اثر ختمه لدستور 2022 انه يستعجل دخول الدستور حيز النفاذ. ولا شك ان هذا الاستعجال كان سببا في » تسرّب الاخطاء » في النسخة الأولى لمشروع الدستور.

ليكن نور فكان نور!

كيف يمكن تفسير ذلك ؟ نحن في الواقع نواجه ظاهرة غربية غير مسبوقة في تونس. يتصرف رئيس الجمهورية منذ 25 جويلية 2021 خارج أي تقيد بالدستور ، لا دستور 2014 ولا دستوره هو نفسه او بالقانون او حتى بالأوامر أو المراسيم التي يصدرها هو ذاته ( الدعوة إلى الاستفتاء على دستور جديد تخالف مخالفة صريحة الأمر 117 الذي يتحدث عن مجرد تعديلات تجرى على دستور 27 جانفي) يتصرف قيس سعيد بمنتهى الحرية لأنه ببساطة يعتقد انه يختزل في شخصه السيادة الشعبية وهو لذلك صاحب السيادة الذي يعلو كل الدساتير وكل القوانين ، اذ كلها تستمد وجودها من وجوده ولذلك قلما يتقيد بها أضف إلى ذلك أن الرجل يجمع في شخصه جميع سلطات الدولة دون رقيب ولا حسيب في ظل غياب البرلمان وغياب شبه تام لمعارضة مؤثرة فاعلة و أوّل سلطاته التي منحها لنفسه السلطة التأسيسية الأصلية و مادام دستور 2022 لا ينبني على مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث التي هي التشريعية و التنفيذية و القضائية فرئيس الجمهورية يمثلها جميعا فهو مافتئ ينفي عن مونتسكيو القول بنظرية الفصل بين السلطات في حين يعرف اي طالب في السنة الاولى في دراسة الحقوق انه من خلال كتاب « في روح القوانين » « De l’Esprit des lois » يتضح جليا ان مونتسكيو لا علاقة له بما يقوله قيس سعيد لا من قريب ولا بعيد كما يدل عليه شاهدنا في الهامش [1].

مع العلم انه في أوّل مسار 25 جويلية لم يعلن قيس سعيد رئيس الجمهورية رفضه لمبدأ الفصل بين السلطات بدليل قبوله به في الأمر التأسيسي عدد 117 لسنة 2021 الذي لا ينص في الفصل 22 على اعداد دستور جديد وإنما ينص على مشاريع تعديلات تتعلّق بالإصلاحات السياسية وتهدف الى تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي « يقوم على أساس الفصل بين السلط و التوازن الفعلي بينها » لكن أصبحت التعديلات دستورا جديدا يستفتى الشعب عليه و يرفض مطلقا مبدأ الفصل بين السلطات.

ومن الأكيد في فكر قيس سعيد ان دستور 2022 لم يخرق في اعتقاده الأمر التأسيسي عدد 117 لسنة 2021 وإنّما عدله وهو أمر جائز عنده فهو يملك السلطة التأسيسية الأصلية كما يحوز سلطة التشريع عامة و لهذا الاعتبار له صلاحية تعديل ما شاء من النصوص القانونية مهما كانت طبيعتها بمجردّ كلمة ينطق بها او بنص ينشر بالرائد الرسمي تسبقه الكلمة « المكونة »أحيانا . وبمجرد صدور الأمر او المرسوم يتغير الواقع والتاريخ دفعة واحدة و في لمح البصر.

نحن بإزاء نظام غريب لا شبيه له ولا ندري أي الأسماء نطلق عليه غير نظام « كن فيكون » فكلمات رئيس الجمهورية أشبه بكلمات الخلق والإنشاء الإلهية . فالأمر يتحقق لحظة النطق به وله قوّة القانون الإلزامية و لهذا الاعتبار فليس من الغريب أن كلمته التي نطق بها يوم ختم دستور 2022 بصفته سلطة تأسيسية أصلية أحدثت تغييرا على دستوره بعد ختمه . فمن صلاحياته تعديل الدستور او أحكامه متى شاء وبمجرد كلمة تصدر عنه وهو أمر ملزم للجميع.

» ليعتبر هذا المجلس نفسه في عداد الماضي من هذه اللحظة «

ولنتأكد من هذا الوضع شبه الإلهي فلنتذكر الحادثة التالية: فقد سبق لرئيس الجمهورية قيس سعيد في إطار جمعه لكل السلطات أن صرح مساء 5 فيفري 2022 بان القضاء وظيفة و أن من حقّه حل المجلس الأعلى للقضاء وأضاف بصيغة من المستحيل العثور عليها في أي نظام قانوني بالمعنى الدقيق لكلمة قانون » ليعتبر هذا المجلس نفسه في عداد الماضي من هذه اللحظة » فكلمته هذه كغيرها من كلماته لها قوّة القانون الإلزامية بمعنى انه في لحظة النطق بها تمّ حل المجلس الأعلى للقضاء قبل أسبوع من نشر المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المؤرّخ في 12 فيفري 2022 والذي احدث به أولا المجلس الأعلى المؤقت للقضاء وثانيا حلّ به المجلس الأعلى للقضاء.

و أمّا الأحكام القضائية العدلية و الإدارية فلا تدخل حيز النفاذ رغم أنها تصدر باسم الشعب وتنفذ باسم رئيس الجمهورية ، ذلك نظريا فقط، ولكن الواقع السياسي الذي تعيشه تونس يلوى عنق الاشياء ويتحدى أي شكل من اشكال النظم التشريعية .فالأحكام القضائية بكل أصنافها لا تدخل حيز النفاذ إذا كانت ضد المراسيم و الأوامر الرئاسية فتلك الأحكام صادرة عن سلطة مؤسسة تنازع السلطة التأسيسية الأصلية في صلاحياتها وقد عبّر رئيس الجمهورية يوم ختم الدستور عن استنكاره لموقف القضاء المراقب لعمل السلطة التأسيسية.

خلاصة القول أن سؤالنا عن تاريخ دخول دستور 2022 حيز النفاذ سؤال فاقد لكل معنى في نظام اللاقانون الذي نعيشه . لقد دخل دستور 2022 حيز النفاذ في اللحظة التي قرر فيها الرئيس ذلك وليس قبل ذلك ولا بعده .هكذا يتصرف قيس سعيد يختم الدستور ثم يتصرف فيه بالتغيير والتبديل كما يشاء وفقا لسلطته الإلهية التي تستمد قدرتها على الخلق والإنشاء من سلطة الكلمة التي تبدع الاكوان فتكون تحقيقا لرغبته وإعجابا بها . : «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ. » [2]
سفر التكوين ( 1 /4 )


الهوامش

[1] Il y a dans chaque Etat trois sortes de pouvoirs :

La puissance législative, la puissance exécutive des choses qui dépondent du droit des gens, et la puissance exécutive de celle qui dépondent du droit civil

Par la première, le prince ou le magistrat fait des lois pour un temps ou pour toujours, et corrige celles qui sont faites.

Par la seconde, il fait la paix ou la guerre, envoie ou reçoit des ambassades, établit la sureté, prévient les invasions

Par la troisième, il punit les crimes, ou juge les différends des particuliers. On appellera cette dernière la puissance de juger et l’autre simplement la puissance exécutrice de l’Etat

Montesquieu « De l’Esprit des lois »

Chapitre V1 Livre X1 page 327. Collection : FALIO / ESSAIS. Édition Gallimard 1995.

[2] سفر التكوين ( 1 /4 )

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات