قرأت البيان الأخير لحزب الوطد الموحد بإمضاء النائب السابق منجي الرحوي والصادر في 8 ماي 2025 وفيه حكم صريح حول المساجين في قضية « التآمر » قبل أن يقول القضاء كلمته الأخيرة .فالقضية لا تزال تحت أنظار القضاء ومهما يكن من امر استقلاليته فالملف لم يزل في طوره الاستئنافي والمتهم بريء حتى تثبت إدانته في حكم قضائي نهائي لا تعقيب عليه.
الرحوي يجهل المبدأ الدستوري الحقوقي الكوني المتعلق بقرينة البراءة فيحكم بجرة بيان لا يمثل غير طعنة في قلب الضمير الإنساني على عشرات المساجين من كل العائلات عقب صدور الأحكام في قضية » التآمر » والتي وصلت فيها الأحكام بالسجن الى ما يقارب السبعين سنة فهم في تقدير الرحوي عملاء وخونة بلا أي تنسيب ولا حذر ولا خجل.
لا يعنينا كثيرا هنا موقف الوطد شق منجي الرحوي من مسار 25 جويلية ( لا يزال يسميه موحدا متناسيا في صلف الشق الآخر شق زياد الأخضر ) كما لا يعنينا هنا أن نذكر بالدور الذي لعبه في تخريب مجلس نواب الشعب المنتخب ديمقراطيا بالتضامن والتواطؤ مع عبير موسي ولا بتحريضه النقابات الأمنية على القضاء في تلك الواقعة المشهورة في محكمة بن عروس.
فما يعنينا اكثر هو الدور الذي لعبه الرجل في تقسيم اليسار وفي تخريب الجبهة الشعبية.
الرجل الذي يسير وحده
ما يعنينا اكثر هنا هو انتهازية الرحوي والسير وحده دون أي اعتبار لموقف الحزب الذي كان ينتمي اليه ولا موقف كتلة الجبهة الشعبية في البرلمان التي كان احد زعمائها .فقد كان الرجل التقدمي والثوري يمشي على عكازين أحدهما على أرض اليسار المتعب بتناقضاته والأخر يرمي به في ساحة الشره السياسي.
ففي موقف يتذكره من يتذكر بعض خصال هذا الرجل اختار الرحوي دون غيره أن يجتمع برئيس الحكومة المكلف يوسف الشاهد عقب سقوط حكومة الحبيب الصيد في 2016 طمعا في وزارة.
وبقطع النظر عن موقف الجبهة من حكومة يوسف الشاهد ولا عن شعار حكومة الوحدة الوطنية وقتها فقد قالت الجبهة الشعبية في بيان لها في 16 أوت 20216 أنها مثلها مثل حزب الوطد الموحّد، لم تكن على علم باللقاء الذي جمع رئيس الحكومة المكلف يوسف الشاهد بالنائب عن الجبهة منجي الرحوي ولم تطلع على ما جرى فيه إلا ما جاء في وسائل الإعلام.
وأوضحت الجبهة في بيانها أن اللقاء المذكور لا يلزمها في شيء ولا يعكس موقفها من « مبادرة » رئيس الدولة حول ما يسمى « حكومة الوحدة الوطنية» ، وأن موقف الجبهة الشعبية من هذه الحكومة واضح ولم يتغير، فالجبهة رفضت الانخراط في المسار الذي أدى إلى تكليف السيد يوسف الشاهد كما رفضت المشاركة في المشاورات التي أطلقها مع الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية اقتناعا منها بأن الحكومة الجديدة لن تكون سوى نسخة من الحكومة السابقة، حكومة الائتلاف الرباعي حسب نص البيان.
ويبدو أن يوسف كان يرمي وقتها الى استدراج الجبهة الشعبية الى حكومته من خلال استدراج الرحوي غير انه فهم أن هذا الأخير يتصرف بمفرده ولا ربح سياسيا من خلال منحة حقيبة وزارية كانت حلمه الذي لم يتحقق.
ولأن الرحوي احترف شق الصفوف والسير وحده ، فقد حضر في 4 جوان 2022، الجلسة الافتتاحية للجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، بدار الضيافة بقرطاج عقب تدابير 25 جويلية 2021…
و قال حزب الوطد الموحد حينها و في بيان له في 5 جوان 2022 انه تبعا لإصرار منجي الرحوي على مخالفة موقف الحزب الرافض للمشاركة في أشغال لجان الحوار الوطني في محاولة يائسة لفرض موقفه الفردي كأمر واقع . فقد قرر وطبقا لما يخوله له النظام الداخلي للحزب وفي إطار الاضطلاع بمسؤولياته في حفظ وحدة الحزب وضمان استقلالية موقفه السياسي عن كل إختراق خارجي فصل منجي الرحوي وسحب عضويته نهائيا من حزب الوطد الموحد.
والحقيقة أن سير الرحوي في خلاء فرديته المتضخمة لم يكن غير مقدمات تسمح له بفتح باتيندا أخرى ودكان آخر جديد باسم الوطد الموحد وباسمه -وان كان الشق الآخر لا يزال ينازعه الاسم- ينضاف الى الدكاكين اليسارية الخاوية على عروشها و التي احترفت النزاعات المعوية المحكومة بأمراض الزعامة والسلطة.
الثوري «عدو حقوق الإنسان »
كل ذلك في كوم وفي كوم آخر يكشف عن الوجه الحقيقي للرجل نصطدم بالحقيقة التي لا يريد البعض الاعتراف بها وهو أن بعض أدعياء اليسار والتقدمية ليسوا غير انصار ظاهرين ومتخفين للاستبداد . كيف يمكن أن نفسر تهجم الرجل على منظمات حقوق الإنسان في تونس واتهامه لها بالعمالة وبتلك التهمة الجاهزة الغبية : الارتباط بأوساط استعمارية وصهيونية التي يرددها الغوغاء من عامة الناس.
كيف يمكن أن نفهم التشفي الصريح الذي يعبر عنه البيان من عشرات المساجين السياسيين من اليسار واليمين ؟ بل كيف يمكن نفهم تحريضه السلطة عليهم دون خجل ؟ واي حساب سياسي أو أيديولوجي يمكن أن يبرر أن يقف الرجل وحده في وجه كل الحراك المجتمعي الذي تعرفه تونس في الأيام الأخيرة والذي جمع في صوت واحد منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والمثقفين وأساتذة القانون وعائلات المساجين السياسيين وطلبة الحقوق والعلوم الإنسانية والإعلام الحر والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان والمحكمة الإفريقية التي تطالب كلها بعودة البلاد الى مسارها الديمقراطي ومؤسساتها المنتخبة و بقضاء مستقل ومحاكمة عادلة .لم ينزعج الرجل في بيانه من القضاء التونسي إلا في ما يخص المحاكمة عن بعد لأنها شملت قضية الشهيدين ..وليس المقصود هنا الانتصار للمحاكمة العادلة بقدر ما يقصد استغلال جلسات الترافع من اجل تصفية الحساب مع خصم سياسي . كل هؤلاء المحكومين في قضية التآمر في عرف الرحوي ليسوا غير عملاء للقوى الأجنبية وللصهيونية العالمية .
إن من يتسامح مع هضم الحق الإنساني و القانون يكرس بلا شك تلك التربية اللعينة التي تريد الأنظمة الاستبدادية أن تربي شعوبها عليها : عقلية الخنوع .من الغريب أن يقبل شخص يدعي انتماءه لليسار طوعيا بالتفريط في ما افتككناه بفضل نضال الرجال والنساء الأحرار ودم الشهداء. عجبا أن تصير ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي « ما يسمى بالربيع العربي » كما جاء في البيان ! . إن من يقبل أن يداس على حق غيره بأية ذريعة من الذرائع يسلم مصيره للمجهول.
الشعوب تربى على محبة الحرية والدفاع عنها لا على الاستسلام والمذلة وتبرير الانتهاك … إن بعض من ينسبون انفسهم لليسار الثوري ينخرطون في الهلوسة التي قوامها رهاب الحرية و الحق الإنساني . وهو امر يدل بلا شك على هشاشة بعض القيم لدينا . لا نزال كلنا ، كثيرا أو قليلا ، أطفالا في مدرسة الحق وان أدعينا عكس ذلك .. فقليل منا يأخذ هذا الحق على محمل الجد فعلا.. ذلك ما تعلمناه بعد الاصطفاف الصريح للجميع تقريبا مع تدابير 25 جويلية قبل أن تصحو الأكثرية من وهم المنقذ المخلص.
وأسفاه !!!
» ولكن لا يهم فالتاريخ بحر عميق متلاطم الأمواج يحوي في جوفه الحوت العظيم كما يحوي الطحالب و الرخويات أو لعلها و بالأصح » الرحويات.