يحدث في برّ تونس : شعب يستفتى حول دستور لا أحد يعرف من كتبه ولا أحد سوف يقرأه من غير المختصين !

تعدّدت تصريحات الصادق بلعيد لوسائل الاعلام التونسية و الاجنبية منذ صدور أمر تسميته رئيسا منسّقا للهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة رغم انه مطالب بواجب التحفّظ عملا بأحكام الفقرة الأخيرة من الفصل 4 من المرسوم عدد 30 لسنة 2022 المحدث للهيئة الاستشارية . فقد نشرت جريدة الشروق يوم 1 جوان 2022 حوارا اجرته معه قال فيه متحدّثا عن النظام الرئاسي انه « في حدّ ذاته يحمل في عمقه توازنا . هناك تفرقة حقيقية و شديدة بين السلط ستكون موجودة » و أضاف « هناك ضمانات ستحمي النظام الرئاسي من الانحراف بالسلطة».

و صرّح بلعيد يوم الاثنين 20 جوان 2022 للقناة الوطنية الأولى أن المبدأ في مشروع الدستور الجديد هو البحث عن توازن بين « الوظائف » و انّه تمّ حذف كلمة سلطة و استبدالها بكلمة وظيفة و علّل التخلي عن مصطلح السلطة بان رئيس الجمهورية هو موظف عند الشعب و ان القضاء وظيفة وليس سلطة ولاحظ ان تجربة اعتبار القضاء سلطة أدت الى دولة داخل الدولة مؤكدا أن النظام الذي سيأتي به الدستور الجديد لا « هو رئاسي لا هو برلماني، بل هو نظام تونسي بحت».

هذان التصريحان هما على طرفي نقيض و يدلّلان على ان الرئيس المنسّق يقول الشيء وعكسه فالصادق بلعيد لا يتحرج ابدا من تبنّى الفكرة ثمّ تبنّى نقيضها فمرة يتقرر عنده اعتماد النظام الرئاسي كما جاء في تصريحه يوم 20 جوان 2022 للتلفزة الوطنية ومرة يقع التخلّي عن النظام الرئاسي فالنظام الذي سيأتي به الدستور الجديد هو نظام لا رئاسي لا برلماني ..هو اختراع تونسي بحت.

انّ اعتماد النظام الرئاسي مبدئيا مسألة محسومة و منتظرة عملا بأحكام الفصل 2 من المرسوم عدد 30 لسنة 2022 المحدث للهيئة الاستشارية الذي يوجب على أعضائها أن يحترموا عند إعداد مشروع الدستور نتائج الاستشارة الوطنية التي أفادت رئاسة الجمهورية بصددها ان المواطنين المشاركين فيها اختاروا النظام الرئاسي و فضّلوه على غيره من الأنظمة فأعضاء اللجنة الاستشارية ليس لهم في هذا المجال حرية الاجتهاد و الاختيار بين النظامين البرلماني و الرئاسي.

ماذا بقي من بلعيد استاذ القانوني الدستوري ؟

كان بلعيد يقول في دروسه للطلبة في السبعينات أن البلد الأم للنظام الرئاسي هو الولايات المتحدة الأميركية و أنّه مؤسّس على مبدأ الفصل بين السلط و انّه من تأثير فكر الفيلسوفين « منوتسكيو » و «لوك » و انه صعب التصدير[1].

كان بلعيد يعتبر وقتها ان النظام الرئاسي الاميركي يوفّر الاستقرار رغم الأزمات السياسية التي قد تمرّ بها البلاد و كان يستشهد بحماس بقضية واترغايت. فالرئيس الأميركي نكسون قرّر التجسّس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس له لكن تم التفطّن للجريمة التي أذن بهاو بدأ التحقيق معه إلى أن اضطرّ إلى الاعتراف بوجود تسجيلات تتعلق بالتجسس لكن رفض تقديمها للتحقيق بحجّة ان لرئيس الجمهورية الأميركية امتيازا يحميه من إثارة الدعاوى القضائية ضدّه حتّى لو خرق القانون فبدأ الكونغرس بإجراءات سحب الثقة منه ورفعت القضية إلى المحكمة العليا التي قرّرت بإجماع أعضائها انه يجب على نيكسون أن يسلّم إلى القضاء التسجيلات التي طلبها منه وقد تفاجأ بقرارها خاصة وانه سبق له أن عيّن فيها من اعتقد أنهم موالون له فاضطرّ إلى الاستقالة . كانت الصحافة التي اثارت القضية منذ البداية تتابع أطوارها و تعلم بها الرأي العام بها.

استخلص بلعيد من تطوّرات هذه القضية و من مآلها ان النظام الرئاسي الأميركي له حماية ذاتية لأنّه يقف على أربعة أعمدة هي السلط الثلاثة و الرأي العام و لا يمكن لأحد منها ان يتجاوز غيره.

غير ان ما كان يدرسه الأستاذ لطلبته كان مجرد كلام يقال في مدرجات الجامعة ولا صلة له بقناعته فالرجل في السياسة غيره في الفكر القانوني الدستوري . فكل مزايا النظام الرئاسي الذي كان يشيد به والذي دعا المواطنون الى تبنيه انطلاقا من الاستشارة ذهبت أدراج الرياح وبجرة قلم.. هكذا يقع استبدال السلطة بالوظيفة ليخرج علينا الأستاذ بنظام عجز عن تسميته فقال عنه انه تونسي محض .

هل يكون كل ذلك من اجل نفي منزلة السلطة عن القضاء وجعله مجرد وظيفة ؟. هل يكون كل هذا اللف والدوران من أجل هذا المقصد اما البقية فمجرد ذر رماد عن العيون.؟ كيف سيستقبل القضاة هذه المنزلة الدنيا التي ستسند لهم في ظرف متوتر بسبب الصراع بين القضاة ورئاسة الجمهورية عقب إعفاء 57 قاضيا وما نتح عن ذلك من إضراب للقضاة دخل أسبوعه الرابع دون أي أفق للحل؟

استفتاء أم بيعة ؟

تلك حالنا فلا الفكر الدستوري ايام الجامعة له معنى لأنه عرضة لتقلبات السياسة السياسوية لا الى تطور الزمن ونضج المواقف فلو كان الأمر متعلقا بتغير الفكر تبعا لما يظهر على الأنظمة من عيوب تحتاج معها الى التصويب والمراجعة لكان ذلك مقبولا، بل مطلوبا . ولا أحكام المرسوم عدد 30 لسنة 2022 المحدث للهيئة الاستشارية وبلعيد رئيسها المنسّق تحترم فالمراسيم اليوم يكذبها السلوك السياسي وكأنها صنعت لتنتهك فأحكام الفصل 2 من هذا المرسوم توجب على أعضاء الهيئة احترام ما سبق بيانه وهي نتائج الاستشارة الوطنية التي أفرزت حسب رئاسة الجمهورية تفضيل النظام الرئاسي و توجب عليهم ايضا احترام المبادئ و الأهداف المنصوص عليها بالفصل 22 من الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بتدابير استثنائية و الذي ينصّ على أن رئيس الجمهورية يتولّى إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي وأوجب ان تهدف تلك التعديلات الى التأسيس لنظام ديمقراطي حقيقي «يقوم على اساس الفصل بين السلط و التوازن الفعلي بينها «.

هكذا فبلعيد الأستاذ بالأمس ليس هو بلعيد السياسي اليوم . فهو الآن آخر غيره تماما . أما ما يفعله بلعيد رئيس الهيئة الاستشارية من اجل جمهورية جديدة فغير ما يقرره المرسوم المحدث للهيئة ..

نحن في وضع لا شيء فيه مصان لا الفكر الدستوري ولا مرسوم الهيئة الاستشارية التي يكذب نفسه. فاين اللجنة القانونية الذي أوكل إليها تحرير الدستور وهي لجنة متركبة من عمداء القانون ؟ . غاب أساتذة القانون وظل المشروع قائما رغم ذلك تتكفل بها جهة سرية علمها عند الله وحده.

فحتى المشاركون في ما سمي حوارا خرجوا وهم يسألون بعضهم بعضا دون خجل عن هذا النص الذي اجتمعوا من أجله وخرجوا وهم أجهل به من لحظة دخلوهم قاعة الاجتماع التي ملئوها بوجودهم الصوري لتبقى جوفاء صامتة . كل ذلك خارج أية إرادة شعبية . فهل هناك من يعلم حقا على أي أساس صنع دستورنا القادم أو من حرره ؟ هو نص يصنع الآن خلسة ثم سيستفتى التونسيون حوله. فلا هم شاركوا في صنعه ولا هم عارفون بظروف كتابته ولا علم لهم بمن كتبه ..سيستفتى الشعب يوم 25 جويلية حول نص لن يقرأه احد ممن سيذهبون الى مراكز الاقتراع . فمتى كانت الشعوب يعنيها كثيرا قراءة الدساتير أو النصوص القانونية ؟ فكم عدد التونسيين الذين قرؤوا دستور 2014 ؟ أراهن أن نسبتهم لا تتجاوز الصفر مع بعض الكسور . لكنهم رغم جهلهم بالنص سيصوتون للشخص لا للدستور ستكون ال « نعم« غالبة وسيتجند من أجلها الإنس والجان من تحت الارض وفي السماء. ستخرج المعارضة لتندد بالتزييف كما يحدث ذلك دائما في كل الانظمة الاستبدادية التي توهم باستنادها الى الارادة الشعبية في انتخابات تدعي انها نزيهة في حين انها تعرضت الى كل انواع التلاعب بالنتائج والتزييف على نطاق واسع .ولكن هل سيغير ذلك من الواقع شيئا ؟ . ستكون بلا شك بيعة لا يهم كثيرا عدد الذين شاركوا فيها . فهي أشبه بالبيعة عند اهل السنة فَقَدْ «اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لا يُشْتَرَط لِصِحَّتِهَا مُبَايَعَة كُلّ النَّاس، وَلا كُلّ أَهْل الْحَلّ وَالْعِقْد، وَإِنَّمَا يُشْتَرَط مُبَايَعَة مَنْ تَيَسَّرَ إِجْمَاعهمْ مِنْ الْعُلَمَاء وَالرُّؤَسَاء وَوُجُوه النَّاس « .

كل شيء جائز. كل شيء ممكن غدا 30 جوان 2022موعد نشر الدستور في الرائد الرسمي. فما دمنا لا نعرف شيئا حول نص مسودة الدستور التي سلمت لرئيس الجمهورية والتي لم نطلع عليها فسنظل نجهل كاتب الدستور.. هل هو لجنة من الخبراء كما يقال أم قيس سعيد نفسه بالاستعانة بجهات غير معلومة ؟ إن الظاهر من كتلة الجليد غير العائم منها في عمق المياه الجليدية التي قد تصطدم بها سفينة تونس ..نتمنى في الأخير ألا يكون مصير بلادنا المنكوبة كمصير التيتانيك الغارق في ظلمات الأطلسي الحالكة منذ عشرات السنين …


الهوامش

[1] Cours de droit constitutionnel, Faculté de droit et de sciences politiques et économiques de Tunis. L’année universitaire 1976- 1977. Pages 281 et suivantes

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات