يعيش الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم أزمة خطيرة لعلها الأخطر في تاريخه منذ تأسيسه. لقد تجاوزت في خطورتها ازمتي 1978 و1984 لأنها لا تعني هذه المرة صراعا مع السلطة لم يمس جوهريا من وحدة المنظمة وتماسكها بل فتنة داخلية ستأكل اذا استمرت الأخضر واليابس اذ تهدّد وحدته ومصداقيته وتكشف عن استفحال ظواهر و سلوكيات خطيرة مثّلت عائقا حقيقيا لعمله وانتقاصا من مصداقيته ..
قد تبدو ازمة الاتحاد ازمة ظرفية مرتبطة بالانقلاب على قانون المنظمة او على صلة بالمجلس الوطني الأخير الذي لم يستكمل أعماله او بصراع داخلي بين مجموعتين تتبادلان التهم او في اقصى الحالات بمهام ظرفية تتعلق بتنقيح قانون الوظيفة العمومية او مجلة الشغل او بالمفاوضات الدورية للزيادة في الأجور سواء في القطاع الخاص او العام في حين ان الازمة قديمة وهيكلية مستفحلة.
في طبيعة الازمة
لقد عملت كل القيادات السابقة على الأقل منذ الاستقلال على شاكلة الحزب الدستوري الحاكم الذي تحالفت معه وكانت جزءا من نسيجه التسلطي على مصادرة حقّ الاختلاف والتضييق على حرية التعبير والرأي داخل المنظمة ولقد استفحل الأمر بعد مؤتمر جربة الاستثنائي 2002الّذي سقّف تحمّل المسؤولية النقابية لأعضاء المكتب التنفيذي الوطني بدورتين . عرف طغيان البيروقراطية منذ هذا المؤتمر على مفاصل الاتحاد فصلا حاسما من خلال سلسلة ردود الفعل المتشنجة و الانتقامية ( حملات تجميد النقابيين من قطاعات وجهات مختلفة، محاولات انقلابات فاشلة ضد عدد من المسؤولين النقابيين في جهات وقطاعات مختلفة بافتعال ملفات مفبركة الغاية منها تصفية حسابات على خلفية مواقف وصراعات نقابية في العشرية الأولى من هذا القرن على وجه الخصوص) وتزامن ذلك مع محاولة التشكيك في جدوى الفصل العاشر من القانون الأساسي للاتحاد منذ مؤتمر المنتستير2006 الذي حاولت القيادة من خلاله التراجع عنه ولكن خاب مسعاها اذ تصدى لذلك المؤتمرون.
لقد ظلت الممارسة الديمقراطية داخل المنظمة في تراجع مستمر ولمواجهة كل نقد داخلي يتم الاعتماد دائما على المناشير الداخلية الزجرية مع التغطية على هذه النزعة التسلطية باستعمال البروباقندا التي جندت لها الأصوات المتزلفة ولكن جريدة « الشعب » التي صارت مع الوقت أداة للدعاية فتنكرت لوظيفتها الاصلية المتعلقة بالتثقيف النقابي والاعلام النزيه في سلوك جعل منها اقرب الى جرائد الأحزاب الستالينية ونفّر منها كثيرا من النقابيين الذين عزفوا عن شرائها فكانت لا تصل الى عموم الشغالين والمواطنين الا من خلال اشتراك الإدارة فيها او ارسالها الى الاتحاد الجهوية في ما يشبه الاستنزاف لميزانية الاتحاد .
اما الفعاليات التي كان من المفروض ان تتحول الى مناسبات ثمينة لتقييم العمل النقابي دوريا وأداء المكتب التنفيذي الوطني خصوصا مثل المجالس الوطنية والمؤتمرات الوطنية فكانت تجري في ظل التلاعب بالنيابات أو سنترتها وشراء الذمم وغرس عقلية الولاء الاعمى للقيادة وتقريب الموالين من خلال كل الصلات الشخصية والجهوية والعشائرية إضافة إلى استعمال الإمكانيات المالية والمهنية لشراء الضمائر ونشر ثقافة التمعّش وقضاء المآرب. مع العلم ان الأمين العام يشير الى كل هذه الظواهر في المكالمة المسربة عندما يقول ان بعض النقابيين تخلوا عنه حين نقص المال واستفحلت الازمة المالية داخل الاتحاد.
وربما تكون المعضلة الأكثر استنزافا لنضالية الاتحاد وقواعده هي مركزة القرار النقابي وتحكم المكتب التنفيذي في كل القرارات ( يكفي الرجوع الى القانون الأساسي للاتحاد لندرك الحجم العملاق التي يملكه هذا الهيكل من دون بقية الهياكل ) و اعتماد سياسة تفاوضية خلقت مع الوقت ضعفا على مستوى الهياكل الوسطى من جامعات ونقابات عامة فضلا عن النقابات الأساسية التي لا تستطيع في كثير من الأحيان انجاز مؤتمراتها الا بعد دورتين لعدم توفر النصاب القانوني .
لكل ذلك فان أي اصلاح للمنظمة لا بد ان يمر بمجموعة من الإجراءات العاجلة مع العلم ان هذه الإجراءات قديمة جدا وان كان البعض منها مستحدثا ويعود أغلبها الى تلك المطالب التي رفعتها المعارضة النقابية ممثلة في« اللقاء النقابي الديمقراطي المناضل « الذي نشط خاصة بعد مؤتمر المنستير و بعد استفحال ازمة التجريد النقابي وملاحقة المعارضين النقابيين . لقد ظلت المطالب التي عبرت عنها المعارضة هي هي تقريبا اذ ان الازمة قديمة هيكلية ومستفحلة كما ذكرنا .
في مطالب الحركة النقابية الديمقراطية
من المطالب التي رفعتها الحركة النقابية الديمقراطية نجد على وجه الخصوص بالضافة الى مطالب مستحدثة استجدت بعد الثورة .
1) ) إعادة الاعتبار لقيم الالتزام والنضال والتضامن العمالي والتمسّك بالمبادئ وتدعيم الديمقراطية داخل الإتحاد.
2) ) الدفاع على استقلالية المنظمة والقرار النقابي والتصدّي لكل محاولات توظيفه لغير صالح العمال.خدمة لأغراض سياسية أو أيديولوجية ضيقة
3 )) استعادة الدور النضالي والنشيط للهياكل النقابية في الدفاع عن مطالبها وتمكينها من حقّ اتّخاذ القرارات ( حقّ الإضراب ) وتخليص عمليات التفاوض من النمط الممركز وعقلية الوصاية وتمكين الهياكل من كل مستلزمات العمل ( التمويل الذّاتي وحرية المبادرة) وتكثيف الانتساب للاتحاد وتفعيل النضال النقابي القاعدي.
4)) مقاومة منهج التسيير النقابي الإداري والبيروقراطي وإعادة هيكلة الاتحاد بما يضمن للمنظمة أن تكون فضاء ديمقراطيا وإطارا نضاليا مستقلا عكس ما تروج له القيادة.
5) ) مقاومة ثقافة التمعّش والولاء الشخصي الجهوي والعشائري ونزعات التهافت على المواقع والامتيازات الناجمة عنها.
6)) التراجع عن كل القرارات التي تنكرت للمكاسب الديمقراطية وعلى رأسها مبدأ التداول على المسؤولية النقابية والتمسك بالفصل 20 من القانون الأساسي كما هو قبل تنقيحه في مؤتمر استثنائي غير انتخابي مثل قمة الاعتداء على دستور الاتحاد و افدح سلوك في استخدام النقابيين للحصول على مكاسب ذاتية لأعضاء المكتب التنفيذي السابق والحالي الذين قضوا دورتين بالمكتب الشيء الذي مكنهم من إعادة الترشح لعضويته ا كما مكن الأمين العام الحالي من عهدة ثانية.
7)) إعادة النظر في طبيعة العمل النقابي ودوره في مرحلة ما بعد الثورة ، فالحركة النقابية مطالبة بدعم الديمقراطية لا مباركة الانقلاب عليها مثلما حدث بعد 25 جويلية 2021 وترسيخ الوحدة الوطنية والدفاع عن العدالة الاجتماعية وتغليب مصالح العمال على المصالح الشخصية والحزبية والجهوية. والعشائرية . فالمهمة الوطنية الموكلة إلى المنظمة النقابية في الظرف الجديد بعد الثورة، ليست المشاركة في إدارة الحكم، بل حماية الديمقراطية الناشئة والذود عن القيم الديمقراطية وقيم الجمهورية ودعم الوحدة الوطنية والتضامن الاجتماعي وفق ما ينص على ذلك قانونها الاساسي.
لكل ذلك فان المطلوب الآن هو أكثر بكثير من مؤتمر استثنائي ( يحاول الخمسة المعارضون صلب المكتب التنفيذي التغطية على هذا الطابع الاستثنائي فيتحدثون عن تقديم تاريخ عقد المؤتمر ربما لان المؤتمر الاستثنائي ارتبط في ذهن النقابيين بالانقلاب على القانون عقب مؤتمر سوسة الانقلابي ) تقوده مجموعة لا تقل فسادا عن البقية .
ما العمل ؟
إن المطلوب اليوم الوصول الى صيغة لعقد المؤتمر الاستثنائي الذي أصبح خيارا لا مناص منه نظرا للشلل الذي عرفته هياكل الاتحاد المخولة لاتخاذ القرار من مكتب تنفيذي و هيئة إدارية ولا نرى في هذا السياق إمكانية لوجود تنسيقية تعد المؤتمر كما يطالب بذلك الملتقى النقابي المعارض وذلك لأسباب ثلاثة على الأقل أولا لان هذا الطلب يتعارض مع قانون المنظمة اذ لا وجود فيه لهيكل من هذا النوع ولا يمكن ابتداعه بمناسبة هذه الأزمة وثانيا لأنه من شبه المستحيل ان يقع الاتفاق على أعضائها اذا ما اقتنع الجميع بوجودها ثالثا لان الملتقى النقابي المعارض لا يملك حاليا اية اغلبية في القاعدة العمالية تمكنه من فرض اختياره ويكفي للتأكد من ذلك الدخول الى صفحة الملتقى على الفيسبوك لنتبين حجم تفاعل النقابيين مع هذا المقترح ضمن ادبيات الملتقى .
كما نرى انه لا إمكانية ان يعود أعضاء المكتب الحالي الى المسؤولية اثر أي مؤتمر قادم نظرا لتورطهم جميعا اما في الانقلاب على الفصل 20 او الاستفادة منه وهي جريمة لا يمكن غفرانها ارتكبت في حق الاتحاد .ولذلك فإننا نقترح ان يقع التفكير حول سيناريو يمثل حلا وسطا وهو ان يضطلع المكتب الحالي بكل أعضائه بالإعداد للمؤتمر الاستثنائي وفقا لما ينص عليه الفصل التاسع ( 09) من القانون الاساسي إذ يصدر الطلب أولا عن ثلثي أعضاء المجلس الوطني على قاعدة التمثيل النسبي وتتثبت الهيئة الوطنية للنظام الداخلي في توفر النصاب القانوني للممضين في ظرف شهر من تاريخ تسلمها للملف ثمّ ترفع تقريرا في الغرض إلى المكتب التنفيذي الوطني الذي يدعو وجوبا الهيئة الإدارية للانعقاد في اجل لا يتجاوز الشهر وفي صورة إقرارها الطلب يدعو المكتب التنفيذي وجوبا المجلس الوطني إلى الانعقاد قصد التثبت في صحة الطلب وقانونيته وتحديد موعد المؤتمر الاستثنائي في اجل لا يتجاوز شهرين من تاريخ انعقاده. مع التزام كل أعضاء المكتب التنفيذي الحالي بعدم الترشح مرة أخرى الى أية مسؤولية ضمن المكتب او غيره من هياكل التسيير.
نعلم جيدا ان هذا المقترح ليس سهلا ولكنه ممكن اذا كانت رغبة الجميع هو انقاذ الاتحاد وليس اللهث مرة أخرى وراء المناصب وتغليب المصلحة الشخصية على مصلحة المنظمة في هذه الأوقات العصيبة.
.وستكون من مهام المؤتمر الاستثنائي القادم انتخاب قيادة جديدة مع الإبقاء على المؤتمر العادي في وقته أي 2027 ( عدد هذا المؤتمر ضمن مؤتمرات الاتحاد مسالة تناقش لاحقا ) مع تفويض المكتب التنفيذي المنتخب الجديد لبعث لجان تفكير لتصور مختلف لهيكلة الاتحاد كأن يتحول الى كنفيدرالية تضم النقابات والقطاعات المهيكلة مع الغاء الاتحادات الجهوية التي تحولت الى محاضن لتفريخ الانتهازيين والسماسرة ( ما يقوله الطبوبي في التسريب الأخير عن نقابيي الاتحاد الجهوي بصفاقس يحتاج الى التفكير بقطع النظر عن أغراض الطبوبي من وراء اتهامه لهم بانهم «مافيا » ) .فالمسالة ليست هينة بل هي تاريخية ومصيرية ولذلك تحتاج الى وقت ويمكن الاستفادة فيها من التجارب المقارنة . بالفعل لا يمكن إنجاز هذه المهمة بشكل عاجل بل هي تحتاج الى استشارات على المستويين الافقي والعمودي تعرض مخرجاتها على المجلس الوطني القادم للمصادقة عليها او ارجاء ذلك الى المؤتمر العام العادي القادم.
دون ذلك فان أي مؤتمر استثنائي سيكون من قبيل عودة الماضي و « تجمير البايت » و استعادة لطاحونة الشيء المعتاد .