قصة " الغراب والثعلب " في ليلة العيد

لا يعنينا أن يكلم رئيس شعبه بعد منتصف الليل بدعوى أن مشاغل الدولة أجبرته على هذا التأخير فقد كفانا غيرنا مؤونة التعليق على ذلك . فمتى كانت مشاغل الدولة اليومية التي تقبل التقديم والتأخير بساعات ولا ضرر ولا ضرار أهم من اعياد الأمة التي تحتفل بها في وقتها واجلها فلا احتفال بالعيد قبل العيد ولا احتفال بالعيد بعد عيد ..تلك معان ورموز شرحها علماء الانتربولوجي في حديثهم عن العيد ودلالاته.

لا يعنينا كثيرا أن يتجه الرئيس الى شعبه وهو نائم ..فلا اعتقد ان الرئيس كان يهمه كثيرا ان يستمع الشعب إليه وهو واع ومستيقظ ولا أن الشعب كان يهمه أن يستمع الى رئيسه وقد سمع منه بعد كلاما معادا لا شيء فيه يهم حياته المتعبة والمقبلة على محنة اقتصادية لا احد يعلم خواتمها وان أدركنا بعض علاماتها السوداء الحالكة.

سنتوقف هنا فقط عند حكاية قصها على مسامعنا الرئيس في خطابه الليل البهيم وهي «حكاية الغراب والثعلب » للكاتب الفرنسي لافنتان.

كان هناك غُراب يعيش في غابة بعيدة، ، وكان هذا الغراب يمتلك صوتًا قبيحًا -ككلّ الغربان- تكرهُه كلّ الحيوانات، ولم يكن أحدٌ يحبّ هذا الصّوت حتّى أتى ذلك اليوم الذي صادف فيه ثعلبًا ماكرا، في قصّة مشهورة اسمها حكاية « الثعلب والغراب». ذات يومٍ مرّ ثعلبٌ ماكر بجانب شجرة يقف عليها الغراب، وكان الغراب يحمل في منقاره قطعة جبن وكان الثعلب جائعًا ، فرأى قطعة الجبن التي في فم الغراب، فقرّر أن يأخذها من الغراب، ولأنّه يدرك أنّ الشّجرة عالية ولن يستطيع الصّعود إليها بنفسه، فإنّه يجبُ أن يجد طريقة يجعل فيها قطعة الجبن تنزل من منقار الغراب دون الصعود إليها، فلمعت في باله فكرة شرّيرة، وقال للغراب: أيّها الغراب، كيف حالك، أنا صديقك الثّعلب، قال الغراب: أهلًا بك يا ثعلب، من أين عرفتني، وماذا تريد مني؟ قال الثعلب: كل الحيوانات يتحدّثون عن صوتك، ويقولون إنّه رائعٌ وفتّان، هل لك أن تغنّي لي شيئًا؟ صدّق الغُراب كلام الثّعلب المكّار، وبدأ ينشد أغنية بصوته القبيح، ولكنّه ما إن بدأ بالغناء حتّى سقطت قطعة الجبن من فمه والتقطها الثعلب، وأخذها وفرّ مسرعًا، بينما سكت الغراب،

وقد استلهم منها احمد شوقي حكايته « الثعلب والديك » ليصف خبث الثعلب :


بَرَزَ الثَعلَبُ يَوما في شِعارِ الواعِظينا
فَمَشى في الأَرضِ يَهذي وَيَسُبُّ الماكِرينا
وَيَقولُ الحَمدُ لِل هِ إِلَهِ العالَمينا
يا عِبادَ اللَهِ توبوا فَهوَ كَهفُ التائِبينا
وَاِزهَدوا في الطَيرِ إِنَّ ال ـعَيشَ عَيشُ الزاهِدينا
وَاطلُبوا الديكَ يُؤَذِّن لصَلاةِ الصُبحِ فينا
فَأَتى الديكَ رَسول مِن إِمامِ الناسِكينا
عَرَضَ الأَمرَ عَلَيه وَهوَ يَرجو أَن يَلينا
فَأَجابَ الديكُ عُذرا يا أَضَلَّ المُهتَدينا
بَلِّغِ الثَعلَبَ عَنّي عَن جدودي الصالِحينا
عَن ذَوي التيجانِ مِمَّن دَخَلَ البَطنَ اللَعينا
أَنَّهُم قالوا وَخَيرُ ال قولِ قَولُ العارِفينا
مُخطِئٌ مَن ظَنَّ يَوما أَنَّ لِلثَعلَبِ دينا

هذه هي القصة التي رواها الرئيس وهي بعض مما كان يروى عن بورقيبة في علاقته بمحمد مزالي فقد كان يروى أيضا أن محمد المزالي طلب من بورقيبة ان يتكئ عليه في سيره وهو يمشي معه يوما في حديقة القصر فأجابه بورقيبة متهمكا .. « من الذي يتكئ على الأخر يا ترى أنا أم أنت ؟.»

تلك قصص كانت تحكى وكان الناس يتناقلونها في تلك الفترة الغامضة من تاريخ تونس حيث اشتد على بورقيبة المرض وأنهكته الشيخوخة ..كان محمد المزالي هو الحاكم الحقيقي الذي انتهى عهده بكارثة الخبز ثم كان من أمره ما كان من المحكمة والفرار من تونس .

ماذا يعني الاستشهاد بهذه الحكاية ؟

إذا كان المقصود أن بورقيبة كان في آخر حياته فاقدا لمداركه العقلية فالحكاية تكذب ذلك إذ أن القصة تبرزه مدركا لما حوله عارفا بمن حوله عليما ب « الدسائس » التي كانت تحاك له فبورقيبة ليس الغراب المسكين الذي ينخدع بمدح المتحيل …

اذا كان المقصود إبراز بورقيبة بمظهر العاجز في آخر أيام حكمه فان هذه الصورة لبورقيبة تذكرني بالصور التي كانت تنشر في الصحافة للرئيس في عهد بن علي.. كانت كلها صور آخر ايامه بيد مرتعشة ورجل مقبل على الموت ..كان ذلك بطبيعة الحال تبريرا لانقلاب بن علي عليه …

إذا كان المقصود به محمد المزالي فقد قال الرجل يوما انه لم يخن بورقيبة ولم يفكر في ما فعله بعده بن علي وكان باستطاعته أن يفعل..و سواء كان قوله حقا أو كذبا وفي كل الحالات فقد جاء بعده من كان ثعلبا حقا فأكل قطعة الجبن التي سلمها له بورقيبة بنفسه حين عدل الدستور فجعل الوزير الأول هو من يتولى فورا مهام رئاسة الدولة بصفة مؤقتة عند الشغور النهائي لمنصب رئيس الجمهورية ثم عينه وزيرا أول لينفذ انقلابه عليه بعد حوالي شهر واحد من تعينه في المنصب…

ومهما يكن من امر فمن اغرب الغريب ما يتضمنه خطاب رئيس الدولة من حديث لا يحتمله المقام ولا تتسع له المناسبة ..ها هو يعيد على مسامع شعبه حديث الصالونات و المقاهي وهي على حد قول عبد الوهاب الهاني في مقاله عن خطاب ليلة امس رواية ضعيفة كذبها أحمد القديدي الذي كان حاضرا في استقبال الضَّيف الإفريقي المُشار إليه في تونس بقصر قرطاج، فلم يذكر الرَّئيس الزَّعيم وزيره الأوَّل بسوء أمام الضَّيف، ولم يذكر أيُّ مؤرخ نزيه معتد بروايته هذه القصة التي اغلب الظن عندنا انها مختلقة صنعها معارضو محمد المزالي في صلة بسياسته بعد ازمة الخبز في 1984 ..

أما إذا كان المقصود ان دولة الاستقلال انتهت إلى الكارثة التي وصلت إليها فان قول ذلك في يوم عيد الاستقلال أمر غريب ..فالأعياد تترى عاما غب عام في اجل مسمى.. هي رموز تستعاد، تعيش بها الأمم حين تستحضر أفضل ما فيها تعزيزا لوحدتها وتقوية لأواصر اللحمة ودعائم العيش المشترك بينها وتحقيقا لهويتها..غير أن قصد الرئيس كان مختلفا تماما ، كان يريد تصفية حساباته مع دولة الاستقلال ومع بورقيبة ليمحو من ذاكرة التونسيين كل ما يتصل بها من الفخر بأفضل ما فيها أي التحرر من الاستعمار وبناء الدولة الوطنية . فالعيد ليس كتاب تاريخ نفتحه لنعرف الحقيقة فتلك مهمة العلماء والمؤرخين وليس دور الشعوب وهي تجتمع لتحتفل… فالعيد سجل نرى فيه بعيون مشتركة أفضل ما لدينا نستعين في ذلك بالماضي على الحاضر ونستحضر مفاخرنا مهما كانت قليلة.. غير اننا وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام قصة الغراب والسواد في ظلمة ليل اسود حالك متقلب الأجواء.

فما أشبه هذه الصورة بتلك التي ينقلها نظام بن علي عن بورقيبة لتبرير انقلابه عليه !

تلك معركة أخرى يخوضها الرئيس منفردا على صهوة جواد جامح لا احد يدري إلى حيث يقوده ويقودنا ضد الجميع: ضد الثعلب والغراب معا فليس الثعلب في آخر أيام حياته أفضل من الغراب عنده ولا الغراب في غبائه أفضل من الثعلب لديه فأفضل منهما من عرف حقيقتهما وجاء ليلقي علينا في دجنة الليل دروسا في التاريخ ونحن نيام تنتصر « للعقل والديمقراطية والحكمة » وتهزم الثعلب والغراب وجميع وحوش الغابة التي تتألب على إرادة الشعب الذي عرف أخيرا طريقه وسيعرّفه للدنيا قاطبة بفضل المنقد والمخلص، فتونس ستكتب التاريخ للعالم اجمع بحسب ما قاله الرئيس في أول خطابه.

هكذا يفرغ الرئيس الساحة من كل معنى عدا المعنى الذي صنعه لنفسه على أنقاض تاريخ لم يستحضر منه بعد الاستقلال إلا ما ينسف كل معاني العيد نذيرا بكل الشؤم الذي تحمله الفرقة و يتضمنه الانقسام أما بعد الثورة فلم يتوقف الا عند 17 ديسمبر.. فما جاء بعد هذا التاريخ سطو وتحيل .في فكره واعتقاده ..

ما الذي بقي إذن ؟ لا شيء غير 25 جويلية وصانعها ..

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات