في الإضراب العام وتفاصيله

تروّج في الأيام الأخيرة بعض التحليلات أو الأخبار بخصوص الإضراب العام الذي قررته الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل في بيانها الصادر بتاريخ 6 ديسمبر/كانون الأول 2025 سواء عن سوء نية أو نتيجة أخطاء تتعلق بالجهة التي اتخذت قرار الإضراب أو بموعد تنفيذه أو بمدى ملاءمة تاريخ 21 جانفي/يناير 2026 للظرف الراهن، إذ يرى البعض أنه كان يستوجب التعجيل بالإضراب.

كما تروج السلطة عبر ممثليها أن المفاوضات مع ممثلي العمال بشأن الزيادة في الأجور ليست سوى عرف لا علاقة له بالقانون.

وسنحاول في هذا التحليل تناول هذه المسائل بشيء من التفصيل.


• في الجهة التي اتخذت قرار الإضراب العام

يوم 4 ديسمبر/كانون الأول 2025، تابعتُ تقريرًا أعدّته قناة "فرانس 24" حول الإضراب العام الذي أقرته الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل وحددت موعده يوم 21 جانفي/يناير القادم، حيث صرّح الضيف الذي استدعته القناة أن مبدأ الإضراب العام تم اتخاذه في هيئة إدارية بقيت مفتوحة، مشيرًا بذلك إلى الهيئة الإدارية المنعقدة بتاريخ 11 أوت/أغسطس 2025 والتي جاء في ختام بيانها أنه "تقرر اعتبار الهيئة الإدارية الوطنية في حالة انعقاد لمتابعة المستجدات واتخاذ القرارات المناسبة وتحديد تاريخ الإضراب العام تبعًا لقرار المجلس الوطني المنعقد أيام 7 و8 و9 سبتمبر/أيلول 2024 وذلك في حال استمرار ضرب الحوار الاجتماعي وعدم تطبيق الاتفاقيات الممضاة ومواصلة سياسة انتهاك الحق النقابي والاعتداء على الاتحاد".

وهكذا، خلط المتحدث بين أمرين هما الدعوة إلى تحديد تاريخ الإضراب العام الواردة في بيان الهيئة الإدارية بتاريخ 11 أوت/أغسطس 2025 وبين قرار المجلس الوطني المنعقد قبل أكثر من عام بالمنستير أيام 5 و6 و7 سبتمبر/أيلول 2024 حيث ورد اقتراح مبدأ الإضراب العام في اللائحتين العامة المهنية. كما أن الهيئة الإدارية المنعقدة في 11 أوت 2025 أقرت بدورها مبدأ الإضراب ودعت إلى تحديد موعده. لكن ظل الوضع على هذه الحال إلى أن انعقدت الهيئة الإدارية الأخيرة التي حددت تاريخ 21 جانفي موعدًا للإضراب العام، ويبدو أن الإسراع بعقد هيئة إدارية جديدة يعود إلى إدراج الزيادات العامة في الأجور ضمن الفصل 15 من قانون المالية وهي زيادات اعتبرتها الهيئة الإدارية الأخيرة "فوقية وهزيلة ومن جانب واحد وفي سابقة لم تعرفها البلاد من قبل وتهدف إلى نفي الدور النقابي والاجتماعي للاتحاد".


• هل المفاوضات المتعلقة بالزيادة في الأجور قانون أم مجرد عرف؟

يقول وزير الشؤون الاجتماعية في مداخلته إبان مناقشة ميزانية 2026، إن المفاوضات المتعلقة بالزيادة في الأجور مع الطرف النقابي لا يفرضها القانون بل هي عُرف درجت عليه العادة في تونس وقد تبنّى كثير من الصحافيين هذا الرأي في المحطات الإذاعية الوطنية أو الخاصة عن جهل أو بغرض سياسي دون تثبت. فهل ما قاله الوزير صحيح؟

ينصّ الفصل 134 من مجلة الشغل المؤرخ في 15 جويلية/يوليو 1996 على ما يلي: "يضبط أجر العملة على اختلاف أصنافهم إما باتفاق مباشر بين الأطراف وإما عن طريق اتفاقية مشتركة وذلك مع احترام الأجر الأدنى المضمون المضبوط بأمر. ويمكن أن تضبط بمقتضى أمر أجور العمّال التابعين لقطاعات غير خاضعة لاتفاقيات مشتركة".

وهكذا، لا يمكن ضبط الأجور بأمر حكومي إلا في حالتين، هما تحديد الأجر الأدنى المضمون أو بالنسبة للعمال غير الخاضعين لاتفاقيات مشتركة. ويتخذ الأمران بعد استشارة المنظمات الأكثر تمثيلاً. كما تركز الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمفاوضات الاجتماعية على تشجيع الحوار والتفاوض بين أصحاب العمل والعمال لتعزيز ظروف العمل العادلة والمساواة، وأبرزها اتفاقيات منظمة العمل الدولية (ILO) مثل الاتفاقية رقم 154 بشأن تشجيع المفاوضة الجماعية والاتفاقية رقم 98 بشأن حق التنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية.

ومنذ ماي/أيار 1973 أصبح الحوار الاجتماعي الإطار القانوني والعملي الوحيد لضبط الأجور وكل خروج عنه يعدّ تراجعًا خطيرًا عن مكاسب الحركة النقابية وتهديدًا للسلم الاجتماعي.

إن محاولة فرض زيادات في الأجور بقرار أحادي، تجاوز للاتفاقيات المشتركة وتمثل خرقًا للفصل 134 من مجلة الشغل والاتفاقيات الدولية مما يفنّد الادعاء بأن التفاوض حول الزيادة في الأجور مجرد عُرف كما جاء في مداخلة وزير الشؤون الاجتماعية أثناء مناقشة ميزانية 2026. فالتفاوض مع النقابات عملية جماعية أساسية تهدف إلى تحديد شروط العمل والأجور والامتيازات وتتم بشكل دوري لضمان السلم الاجتماعي مع وجوب توفر حسن النية.


• الإضراب العام يوم الأربعاء 21 جانفي.. لماذا؟

يعتقد البعض أن تاريخ 21 جانفي 2026 لتنفيذ الإضراب متأخر جدًا قياسًا بخطورة الوضع.

من الضروري التوضيح هنا أنّ الإضراب العام مرتبط بعوامل قانونية وموضوعية أوّلها أنّ الإضراب يسبقه إعلام قانوني بعشرة أيام على الأقل كما ينص الفصل 376 مكرر من مجلة الشغل المضاف بالقانون عدد 84 لسنة 1976، وثانيها أنّ تحديد موعد الإضراب بعد شهر ونصف من انعقاد الهيئة الإدارية يعود إلى رغبة الاتحاد في منح الحكومة مهلة واسعة لمراجعة موقفها قبل صدور الأمر المتعلق بالزيادات العامة في الأجور بناء على نسبة التضخم وتعديلًا للمقدرة الشرائية للمواطن، وهو أمر ترتيبي مهم لأنه يحدد نسبة الزيادة والمنتفعين بها بدقة وبدء سريانها حسب الرتب، علمًا أنّ تفاوض الحكومة مع الاتحاد حول الزيادة في الأجور كان منذ عقود يدور حول النسب وليس حول مبدأ الزيادة نفسه الذي لم يكن محل خلاف كبير خاصة في فترة حكم بن علي، حيث حافظ النظام آنذاك على علاقة "سلمية" مع الاتحاد مقابل أدوار سياسية وانتخابية معروفة اتخذها الاتحاد في اتجاه السلطة.

كما أن الاتحاد لا يرغب فعليًا في تنفيذ الإضراب لمجرد الإضراب نظرًا لخطورة الظرف الحالي المتسم بتصلب السلطة في وجه مختلف أشكال المعارضة السياسية والنقابية وهو ما أكده الأمين العام نور الدين الطبوبي حين صرح قبل أيام من انعقاد الهيئة الإدارية أنّ "يد الاتحاد ما تزال ممدودة للحوار". وثالثها أنّ الإضراب العام عملية معقدة تتطلب تعبئة واسعة خاصة في ظل الانقسامات الداخلية الحالية داخل المنظمة وهي تعبئة تحتاج إلى أكثر من شهر على الأقل. رابعها أن اختيار شهر جانفي له بعد رمزي مرتبط بنضالات العمال والحراك السياسي على امتداد عقود، خاصة أحداث 26 جانفي 1978 وأزمة الخبز في جانفي 1984 مع تجنب يوم الخميس لحساسيته التاريخية المتعلقة بمجزرة "الخميس الأسود" وتجنب كل ما قد يوحي بأي شكل من أشكال العنف، فجعل الإضراب يوم الأربعاء أي في وسط الأسبوع حيث يكون النشاط في ذروته.

أخيرًا، أوردنا كل هذه التوضيحات تصحيحًا للتصريحات الرسمية الصادرة عن ممثلي الحكومة ولما يروج في وسائل الإعلام التونسية والأجنبية م*ن مغالطات أو معلومات خاطئة ومنها الادعاء بأن قرار الإضراب اتُّخذ في الخارج وتحديدًا في المغرب بناء على كلمة حفيّظ حفيّظ التي أثارت جدلًا وتفاعلاً واسعين في محطات الاخبار ومواقع التواصل الاجتماعي وهو ادعاء مغرض لا أساس له، لأن تأزم الوضع السياسي يعود إلى نحو سنتين حين بدأ الاتحاد يبتعد عن مساندة إجراءات 25 جويلية/يوليو غير محسوبة العواقب نقابيًا وسياسيًا، ويدرك أن إرادة السلطة تتجه إلى القضاء على كل الأجسام الوسيطة ومن بينها الاتحاد وكل منظمات وهيئات المجتمع المدني.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات