خطاب الثّعلب الماكر المكابر

Photo

أطلّ علينا الرّئيس الفرنسي "ايمانويل ماكرون" من خلال قناة الجزيرة ليخاطب الجمهور العربي والإسلامي وقد تغيّرت نسبيّا نبرة صوته وتراجعت حدّته ليتضمّن بعض التّغيير الشّكلي في المواقف الّتي أعلن سابقا أنّه لن يتراجع عنها أبدا، خطاب تبريري لا يرتقي الى مستوى المراجعة الجوهرية والنقد الذاتي وخال من أيّ اعتراف بالخطأ أو تحمّل للمسؤولية بل تنصّل منها. فما الّذي دفع ماكرون لمثل هذه الخطوة الشكلية أو هذا التراجع النسبي التكتيكي؟

وما الذي يجعله يعتذر صراحة عمّا صدرت منه من حماقات وإساءة مسّت قرابة الملياري إنسان ويقوم بخطوات عمليّة حتّى لا تتكرّر الأزمة؟ _بين الاستعمار و الاستحمار: ممّا قاله الثعلب الماكر ماكرون: " أتفهّم مشاعر المسلمين إزاء الرّسوم الكاريكاتورية" ليضيف:"اعتقد أنّ ردود الفعل كان مردّها أكاذيب و تحريف كلامي و لأنّ النّاس فهموا أنّني مؤيّد لهذه الرّسوم" بعبارة أخرى يقول السيد ماكرون بأنّه يفهم و يتفهّم و له القدرة على الاستيعاب و الإدراك و له كلّ وظائف العقل الّتي يفتقدها قطيع من الغوغاء و السذّج و الحمقى ممّن لم يحسنوا فهم ما يقصده ،و انجرّوا وراء من تلاعب بهم كقصّر لا يملكون من أمرهم شيئا من السّهل خداعهم و توجيههم.

ماكرون يتصرّف بنفس مضمون الاستعلاء والعنجهية والصّلف والاستكبار ويعلنها صراحة أنّ الخطأ خطؤكم لأنّكم لا تفهمون! وهو من فهم كلّ شيء وخبر كلّ شيء حتّى أنّه كعلماني ينتمي إلى اللّاأدرية قد فهم الإسلام أكثر من أهله وشخّص أزمته وانطلق كمجدّد تنويري في تصحيح أخطائه فيقول بحسرة الخبير العارف الملمّ بكلّ التفاصيل:" هناك أناس يحرّفون الإسلام وباسم الدّين يدافعون عنه".

ويتمادى الثعلب في تذاكيه واستغبائه للجمهور وتناقضه مع ما وثّق من تصريحاته الّتي لم تمض عليها أيّام بقوله أنّ الرّسوم الكاركاتورية ليست مشروعا حكوميا وهي منبثقة من صحف حرّة ومستقلّة غير تابعة للحكومة، وكأنّه لم يأمر بنشرها على واجهات المباني الحكومية أو لم يعلن بتعميمها في المناهج المدرسية باسم حرّية التعبير! لم ينزل الثعلب من شجرة الغطرسة والكبر، ما فعله فقط هو حركة بهلوانية انتقل بها من غصن إلى آخر بعد ما هبّت بعض الرّياح الّتي أجبرته على إعادة التّموقع لينتقل من الصُّباح إلى الضّغاء بعد ألم مقاطعة شعبية لمنتجات بلده بدأت تؤتي أكلها وتبعات غير منتظرة لتصرّفاته الحمقاء والرّعناء.

مع بداية أزمة الرّسومات المسيئة لسيّد الخلق الّتي كانت ضمن حزمة من الإساءات للمختلف في مجتمع يرفع شعار التنوّع والقبول بالآخر، كان موقف ماكرون وحكومته ينضح استكبارا فجّا واستعلاء وقحا حتّى أنّهم أصدروا أوامر لإيقاف حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية وكأنّهم مازالوا في الزّمن الكولونيالي الجميل ليكتشفوا انفصامهم ويغيّروا بعض أسلوبهم ويمرّوا الى الاستحمار. _كيف سيتراجع "ماكرون" حقيقة؟

اختار ماكرون لخطابه التبريري قناة الجزيرة دون غيرها لتمريره وقد تجاهل قنوات أخرى مثل فرنسا 24 وسكاي نيوز والعربية وهي الّتي كانت تبيّض مواقفه وتبرّرها في نطاق الحرب المعلنة على الإسلام السياسي وهي في حقيقتها حرب على الإسلام الحيّ القادر على الحياة والانتشار. ظهوره على شاشة القناة الأكثر انتشارا ومهنيّة سبّب الكثير من الألم لبعض مرضى الإيديولوجا وجرحى ثورات الرّبيع العربي وهم من يسعون لإخراس صوتها الى حدّ تعبير بعضهم عن الامتعاض موجّهين النّقد اللّاذع لها بفتحها المجال لمن سمح بإهانة رسول الله في حين أنّهم ابتلعوا ألسنتهم حينما حصلت تلك الإهانة وأخرجوا تبريرات لها وواجهوها بحملة لمقاطعة المنتجات التركية!

ما كان ماكرون أن يتراجع نسبيّا وشكليا لولا الحملة الشعبية لمقاطعة المنتجات الفرنسية والهبّة غير المتوقّعة لمن انتفضوا نصرة للمبعوث رحمة للعالمين، ردّة فعل بفعل سلمي متحضّر أثبت جدواه وأثمر بالرّغم من حملات التثبيط والتشكيك لأجل تأبيد واقع الهزيمة وبثّ اليأس في النّفوس وسلبها إرادة الفعل السّاعي لأيّ تغيير. تجاوزت الجماهير المستضعفة والمطحونة حكّامها الوظيفيين العاجزين المنبطحين ليبادروا ويمارسوا شكلا راقيا للمقاومة وليكتشفوا أنّه بإمكانهم التّأثير والتّغيير، وما يرعب الطّغاة العرب أن تنضج حالة الوعي الظرفيّة هذه وتتحوّل إلى مطالبة بالحرّية والكرامة والمواطنة والمشاركة في الشّأن العام.

اضطرّ ماكرون لبعض التّراجع التكتيكي الّذي لا يرتقي الى الاعتراف بجرمه و لم يقدّم اعتذارا صريحا ، فمن يعتذر يقرّ الذّنب على نفسه كما قال ذات مرّة الرّئيس قيس سعيد بعد أن قبّل كتف "ماكرون" حين تعالت أصوات تطالب فرنسا بالاعتذار عن ماضيها الاحتلالي الحافل بالجرائم ، و قد أجبر الماكر على تلطيف خطابه السّابق المشحون بالحقد و الكراهية ، خطوة لا تكفي لإنهاء حالة الاحتقان لدى من استهدفوا بالإهانة و عوملوا بتمييز واحتقار و لا بدّ لحملة مقاطعة المنتجات الفرنسية أن تستمرّ و تزداد زخما حتّى تحقّق أهدافها بالكامل: _ ألا تستحقّ اهانة ملياري مسلم اعتذارا صريحا مباشرا ؟

_احترام خصوصيات الآخرين و عدم المسّ بمقدّساتهم و اصدار قانون يجرّم التعرّض للرّموز الدّينية مثل الّذي يحرّم الخوض في الهولوكوست.

_الكفّ عن الخطاب العنصري التّحريضي ضدّ المسلمين داخل فرنسا و خارجها و ملاحقتهم و التضييق عليهم لأجل معتقداتهم. وقد يتساءل البعض كيف لهذه المطالب أن تتحقّق؟

استمرّوا في الضّغط وفي المقاطعة وسترون من أعلنها بتحدّ منذ أسبوع أنّه لن يتراجع، كيف يتراجع حقيقة. هو الآن في مرحلة " أنا فهمتكم"!

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات