توفّي في أوّل أيّام شهر الرّحمة النّاشط الحقوقي السّعودي الدّكتور عبد الله الحامد بعد سنوات من الاعتقال في السّجون السّعودية تعرّض خلالها لكلّ أشكال الانتهاكات و الموت البطيء،ليترجّل فارس آخر قتل عن سابق إصرار و ترصّد بإهمال طبّي متعمّد بسبب آرائه الّتي كان يتبنّاها ويدعو إليها و مات عليها وهو ثابت و صامد.
توفّي أحد أبرز رموز التيّار الإصلاحي السّعودي وفقيه الدّستوريين بعد مسيرة حافلة بالنّضال الحقوقي لأجل الوطن والإنسان، خاتمة متوقّعة لمن مثله في بلد ترعبه الكلمة حتّى ولو كانت نصيحة ليلتحق بآخرين في انتظار آخرين قد يلتحقون بقافلة الصلّاح والمصلحين.
خبر حزين في زمن الكورونا الّتي يبدو وأنّنا لم نستوعب دروسها بل إنّ أنظمتنا القمعيّة تستغلّها للاستمرار في ممارسة هوايتها السّادية وفي الإمعان في التوحّش، وكما حصل بعد قتل النّاشط عبد الرّحيم الحويطي ومن قبله الأستاذ جمال خاشقجي فلا يبدو أنّ الجلّاد قد اعتبر ممّا حصل بل على عكس ذلك فان شاهيته للقتل تزداد أكثر وهو ما يعرّض عشرات المعتقلين لنفس المصير، فهل يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه وكيف السّبيل إلى ذلك؟
عبد الله الحامد..الإصلاحي الصّامد:
ولد عبد الله الحامد في 12يوليو1950 بالقصيعة إحدى ضواحي مدينة بريدة، نشأ في أسرة متوسّطة الحال وكان له احد عشر شقيقا، تخرّج من المعهد العلمي ببريدة سنة، 1967 درس اللغة العربية بكلّية الرّياض و تحصّل على الماجستير سنة1974 ليلتحق بالأزهر الشريف و يتحصّل على الدكتوراه في تخصّص الأدب و النّقد سنة 1978.
كان الدّكتور شاعرا و كتب القصيدة العمودية و التفعيلية و قد نشرت له عدّة قصائد منذ مرحلة تعليمة الثانوية حتّى الجامعية، غير أنّ اهتمامه انصبّ في النّهاية في مجال الإصلاح الفكري و قد تأثّر بمحمّد رشيد رضا و أحمد أمين و محمّد الغزالي و أمين الخولي، ليتبلور منهجه و تبتدئ محاولاته في الإصلاح على أرض الواقع و من خلال كتاباته ، ترك الدّكتور أبو بلال خمسة عشر مؤلّفا عكست أفكاره الّتي تناولت بإسهاب قضايا الحرّية و الإصلاح من منظور شرعي و فقهي من أبرزها"حقوق الإنسان بين عدل الإسلام و جور الحكام" و "الكلمة أقوى من الرّصاصة" و"الطّريق الثّالث الدستوري الإسلامي".
أسّس الدكتور الحامد منهجا إصلاحيا جديدا في المملكة العربية السّعودية متمثّلا في حركة الملكيّة الدّستورية السّعودية ، و هو بخلاف المعارضة السّعودية الجذرية الّتي لا ترى إصلاحا في المنظومة القائمة يعتقد بأنّ الفرصة لا تزال متاحة و ممكنة و بالإمكان القيام بعملية إصلاحية من داخل المنظومة على أسس شرعيّة و فقهيّة دون الالتجاء لتبنّي نمط الدّيمقراطية المستوردة ،و قد طالب بإعادة صياغة العقد الضّابط لعلاقة الحاكم بالمحكوم والمرور من حكم الملكيّة المطلقة المولّدة قطعا للفساد إلى ملكيّة دستورية جديدة تعتمد مبادئ المشاركة و العدل و الحرّية ، و هو يدعو إلى نظام دستوري يقول أنّه صورة متجلّية للنّظام الشّوري و ركّز على ضرورة إصلاح القضاء بما يمنحه الاستقلالية و النّزاهة و تعرّض لبعض المفاهيم المغلوطة في الخطاب الدّيني المتعلّقة بالتشّريع و البيعة و الحاكميّة.
أفكار إصلاحية نيّرة ومستنيرة لا تختلف عمّا كان يدعو إليه الأستاذ جمال خاشقجي الّذي تعرّض لعمليّة اغتيال بشعة لا يزال مرتكبوها يمارسون جرمهم في تعقّب كلّ رأي مخالف وكلّ نقطة ضوء قد تضيء في العتمة. قدّم الدّكتور نفسه كما الشّهيد خاشقجي على أنّه وطنيّ محبّ لوطنه ناصح و مصلح و لم يعترض يوما على مسألة الملك و ولاية العهد، وقد سبق للأستاذ خاشقجي بأن وصف الدّكتور الحامد، في لقاء تلفزيوني أجراه بضعة أسابيع قبل أن تطاله يد الغدر، بأنّه رجل مثقّف واصفا حركة الإصلاح الدستورية الّتي أطلقها بأنّها متقدّمة جدّا منهيّا حديثه بالقول بأنّ عبد الله الحامد مثقّف لكنّ خلفيّته إسلاميّة راسخة.
جريمة أخرى:
لم يشفع النّهج الإصلاحي للدكتور الحامد ودعوته لإصلاح المنظومة من داخلها دون إسقاطها لتجعله بمنأى عن التّضييق والمطاردة والاعتقال، ليعرف السّجون السعودية ويزورها في ستّ مرّات أوّلها كانت سنة 1992 ,وآخرها سنة2013 ليحكم عليه بإحدى عشر سنة بتهم التحريض على الفوضى، وتفتيت الوحدة الوطنية وتدمير قدرات الأمة ومكاسبها، وزرع بذور الشقاق والمعارضة.
دخل الشّهيد في إضراب عن الطّعام احتجاجا على ظروف سجنه السّيئة وهي خطوة لم تعجب الجلّاد فأمعن في التّنكيل به وضاعف التعسّف والإهمال ممارسا اغتيالا ممنهجا وقتلا بطيئا له مع سابق الإصرار والترصّد.
تدهورت الحالة الصحّية لأبي بلال قبل ثلاثة أشهر، وكان بحاجة مؤكّدة لعمليّة قسطرة في القلب وهو ما تمّ تجاهله ولم يتم، ممّا عرّضه لجلطة دماغية في 9نيسان الماضي وقد ترك في زنزانته لمدّة أربع ساعات وهو مغمى عليه قبل أن ينقل إلى المستشفى لتتتعكّر حالته وليلفظ أنفاسه ويلقى ربّه في أوّل أيّام شهر رمضان الحالي، شهر الرّحمة في ظلّ ما يعيشه العالم من تغيّرات فرضتها جائحة كان من المفروض أن تحدث تغييرا ايجابيّا غير أنّها لم تزد الطّغاة سوى توحّشا وظلمة.
لا يبدو أنّ المستبدّين قد استفادوا أو اعتبروا ممّا جرى و ممّا يجري وهم مايزالون مستمرّين في نفس النّهج و تكرار الفشل بنفس الأسباب،اغتالوا الأستاذ خاشقجي ليطاردهم طيفه و يحاصرهم و هم ما يزالون يدفعون لأجل حماقة سُجّلت على أنّها أغبى عملية اغتيال في التّاريخ ، ثمّ قتلوا بدم بارد عبد الرّحيم الحويطي ذاك الرّجل الّذي مات مدافعا عن أرضه الّتي أرادوا أن يغتصبوها إرضاء للمغتصب الصهيوني و انخراطا في صفقة القرن ،ليصبح الرّجل أشهر من نار على علم و يتحوّل إلى أيقونة تحرّر ضدّ الظّلم و الاستبداد.
و هاهم يمارسون نفس القتل بطريقة أخرى مع الدّكتور الحامد متوهّمين أنّهم قادرين على التخلّص من فكرته مع أنّ الفكرة حرّة طليقة و حيّة لا تموت. يقول الشّهيد الحامد فيما يقوله:" إنّ الّذين يجعلون التّغيير السّلمي مستحيلا سيجعلون التّغيير الثّوري حتميّا في المستقبل" و كما قال الدّكتور سلمان العودة:"لم تنته الحكاية..غدا تطير العصافير" رحم الله شهيد الإصلاح و الكلمة و الفكرة و ادخله فسيح جنانه.