رجل سبعيني يلهج و يلهث و هو يجاهد لكي يحصل على حفنة هواء، هاجمت زرقة قاتمة شفتيه و انهمرت الدموع من عينيه كما تبكي السّماء ، لم يكن يبكي كجميع من سالت دموعهم و احمرّت عيونهم عندما استنشقوا تلك الغازات المسيلة للدّموع و ابتلّوا بالماء البارد المضغوط الممزوج بالكلور و امرأة نحيفة ترتعش و قد فاضت دموعها و هي تبسط يديها و ترفعهما تضرّعا و تتمتم بدعاء بحشرجة ضاعت وسط هتافات الحاضرين ، و شاب في العشرين كان يجلس القرفصاء و ينتحب بحرقة بعدما تمً سحله و ركله و شابّة تقفز كلبؤة لتخلّص فريسة من قبضة النّمل المتوحّش، تدفع لتسقط ثمّ تنهض و تعيد الكرّة لتنجح في النّهاية ، و حرّة تنتصب كتمثال الحرّية لا تحرّك ساكنا امام جحافل النمل ،و اخريات و آخرون افترشوا الاسفلت غير عابئين بالموتوسيكلات و هي تمرّ سنتيمرات بالقرب من أجسادهم.
هراوات، ركل، سحل ، اختطاف، ماء بارد مضغوط ممزوج بالكلور، غازات مسيلة للدّموع، مئات من السيّارات و المدرّعات و الموتوسيكلات و الاف من النمل المدجّج بالسّلاح و متاريس و حواجز في كلّ مكان ، تضييق و حصار و أجواء حرب بامتياز ،لسنا في فلسطين المحتلّة بالرغم من حضور ترجمانها عميل الامارات و اسرائيل و لسنا في ميدان التحرير بالرّغم من أنّ بصمات مخابرات السّيسي واضحة في كلّ ما يجري، نحن في موطن ثورة الياسمين ، في ذكرى ثورة مكلومة أراد البعض الاحتفال بذكراها بعد أن سعى آخرون لوأدها و طمسها بل و محوها من الذاكرة بالكامل.
غبيّ من يعتقد أنّ الثورات تموت ،قد تتعثّر و تنتكس و تأفل للحظات لتنهض من جديد و تتوهّج كطائر فينيق ينتفض من تحت الرّماد.
من جعل الشيخ السبعيني يخرج ليهتف للحرّية و تلك الفتاة الّتي انتصبت كتمثال الحرّية و كلّ الّذين تنادوا و التقوا في ميادين الكرامة والحرّية ،لا يمكن لهم البتّة أن يتنازلوا عن نعمة الحرّية.
نجح حراك الاحرار و كان يوما مشهودا ، فرضت فيه ارادة الأحرار و اسقطت آخر أوراق التوّت عمّن يريد أن يسلبهم القرار،و تكسّرت هيبة الصّنم الصّغير و من يحرّكونه من وراء السّتار.
سقطت أكذوبة الدّيمقراطية و احترام الحرّيات بعد أن اسقطت سردية التفويض الشعبي و خرافة الشعب يريد و خرج عاريا أمام العالم و لم يجد ورقة واحدة يستر بها سوأته و لو ورقة كوكا أو قشرة موز من الاكوادور أو ورقة استفتاء من كولمبيا !
الطّائر الّذي تذوّق حلاوة التحليق و استنشق نسيم الحرّية لا يمكنه العودة إلى القفص و لو كان من الذّهب الخالص، لم تنته الحكاية غدا تطير العصافير.