و لا بدّ للقيد أن ينكسر

"ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن*
يسيء بي فيه عبد و هو محمود.
و لا توهّمت أنّ النّاس قد فقدوا *
و أنّ مثل أبي البيضاء موجود."

نعم هو موجود يا أبا الطّيب ..في عهدك و من بعدك و في كلّ العهود. قصّة المتنبّي مع الإخشيدي،قصّة تتكرّر دوما، قصّة خديعة و خيانة ، و نكث للعهود، و الأخطر ممّا جرى بينهما هو ما حصل بعدهما،الإخشيدي ذاك المملوك المخصي المملوء بكلّ عقد النّقص و الّذي وجد نفسه صدفة على عرش مصر لم يكن لمن بعده سوى جسر و تمهيد.

أضعف الإخشيدي مصر و جعلها في حالة من الوهن و الضّعف لتكون لقمة سائغة للفاتح المخلّص الجديد ،المعزّ لدين اللّه الفاطمي الّذي حكم أهلها بالحديد و النّار و هو من قال فيه ابن هانئ الأندلسي:

فاحكم فأنت الواحد القهّار.
و كأنّما أنت النّبي محمّد
و كأنّما أنصارك الأنصار
أنت الّذي كانت تبشّر به
في كتبها الأحبار و الأخيار

غاب الإخشيدي و المعزّ و بقي إرثهما، رصيد من الطّغيان المتوارث المتجذّر و المنتشر في الجسم كتفريخات ورميّة للسّرطان الأمّ.

تغيّب المتنبّي و ابن هانئ الأندلسي عن الصّورة و بقيت صورهما تتشكّل قدحا أو مدحا للطّغاة على مرّ الأزمان حتّى يومنا هذا.

عندما تستمع إلى قائمة من التّهم الكبيرة من قبيل التآمر على أمن الدّولة و السّعي إلى تغيير هيأتها و التخطيط لاسقاطها و تأزيم الأوضاع من خلال الاحتكار و رفع الأسعار و الخيانة و التّخابر مع جهات أجنبية بل و الانخراط في مخطّط لاغتيال رئيس الدّولة،يتوقّع كلّ عاقل أن تكون الملفّات دسمة و مدعومة بقرائن تنطق قبل أن ينطق القضاء كما قال من ادّعاها و إن لم يكن كذلك فعلى الأقلّ في مستوى أدنى من الحنكة ما يجعلها تمرّر و يقبلها من لم تتلف بعد كلّ نيرونات عقله السّوي،ليتمخّض الجبل و يولد ضبّا خدع ذات مرّة أرنبا فتوهّم نفسه حكيم زمانه و الحاكم بأمره الّذي لا يري بقيّة الدّواب إلّا ما يرى.

لم تكن التّهم الموجّهة إلى الأستاذ البحيري سوى تدوينة فايسبوكية اعتبرت ذات محتوى ديني و تحريضية استهلّها بصدر بيت شعر للمتنبّي: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم"، ليزوروه ليلا و يشبعوه و أهله ضربا فيخلع كتفه ممّا استوجب تدخّلا جراحيا بعد ايداعه السّجن، فماذا لو استفتح بما استفتحت ؟ أو استنجد بصواريخ مظفّر نوّاب؟

أمّا التّهمة الموجّهة إلى السّيد خيّام التركي فهي تنظيمه لاجتماعات قصد تغيير هيئة الدّولة،أليس ذلك من صميم عمل المعارضة لإيجاد بدائل و حلول لأزمة تزداد تعقيدا لا ينكرها الّا المنفصم و المنفصل عن الواقع؟

أمّا السيّد عبد الحميد الجلاصي الذّي بحّ صوته خلال سنين الجمر فيريدون إخراسه الآن إلى الأبد و التّهمة احتساء قهوة في مكان عمومي مع السّيد خيّام التركي! أيّ عبث نعيشه هذه الأيّام؟

اعتقالات بالجملة و متنوّعة شملت أيضا الأستاذ الأزهر العكرمي في قضيّة بثّ فيها و حسم أمرها منذ عشر سنوات، و دبلوماسي سابق و رجل أعمال نافذ و ربّما رئيس لجامعة رياضية، تنويع و تعوييم و التّهم جاهزة كما الأحكام بعد النّجاح النّسبي في تدجين القضاء نتيجة سياسة الترويع و التجويع الّذي مارسته سلطة الانقلاب ضدّ هذا القطاع الّذي تحوّل تدريجيا إلى وظيفة بعد أن كان أحد أضلع مثلّث السّلطات المتوازي الأضلاع ليغيب المثلّث تماما و يتشكّل في نقطة ثقب أسود ابتلع كلّ السّلط و اختزلها في واحدة.

اعتقالات و لخبطة و خبط عشواء للتغطية على الفشل الذّريع لسلطة الانقلاب و عجزها عن ايجاد الحلول لأزمة شاملة تستفحل يوما بعد يوم و بعد فضيحة تهريب الناّشطة الجزائرية الفرنسية أميرة بوراوي الّتي أسقطت بالضّربة القاضية سرديّة السّيادة الوطنيّة المزعومة و الزّائفة.

قد تستثير مثل هذه الايقافات بعض الدّهماء و ممّن في قلوبهم مرض بغية استعادة مشروعية فقدت إلى الأبد و الّتي كالبكارة الّتي افتضّت لن تعود كما كانت مهما أتقنوا في رتقها،مشروعية زائفة سقطت كما سقط البلد في بئر بلا قرار،لن تسعفها أو تنعشها أفلام استعراض القوّة الغاشمة لتكميم الأفواه و الترهيب لتغلق جميع الأفواه و لا يبقى سوى فيه ليتقيّأ خطابه الكريه!

ايقافات تكلّفت الملايين و كان من الممكن الالتجاء إلى مجرّد استدعاء لن يكلّف الملاميم في بلد مفلس يجحذ على قارعة الطّريق!

و اطلالة لطلعته البهيّة في سوق شعبيّة لإسناد الفقراء و المساكين و دعمهم بالشّعارات الحنجرية و كان يكفي مساعدتهم بما تكلّف تنقّله إليهم من ميزانية!

و بناء على محاكمة الإخشيدي للمتنبّي وجب محاكمة التونسيين جميعا و هم يردّدون أبيات شاعرنا الفذّ أبي القاسم الشاّبي المتضمّنة في نشيدهم الوطني :

"اذا الشّعب يوما أراد الحياة*
فلا بدّ أن يستجيب القدر.
و لا بدّ للّيل أن ينجلي*
و لابدّ للقيد أن ينكسر."

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات