لا يمكن اعتبار الرّئيس خطيبا فصيحا مفوّها من طينة من عرفوا بذلاقة اللّسان و فصاحة البيان و القدرة على الإقناع بالحجّة و البرهان، فهو لا يحسن ارتجال اللّغة العربيّة و كثيرا ما يتجنّى عليها ليفقدها جمالها و سحرها لتصبح ركيكة ممجوجة تحدث نشازا في آذان أهلها و يستطيبها أهل بلد غرّبت فيه و صار المتحدّث بها سيبويه زمانه!
يفتقد الرّئيس للكاريزما و الحضور الركحي و الثّبات الانفعالي و غالبا ما تراه متشنّجا ،مقطّب الجبين ،غائب البسمة، يلوّح بقبضته أو بسبّابته و هو يزيد و يرعد و يتوعّد و دوما ما يحاضر بصوت مرتفع و بنبرة متسلّطة أمام طرف ثان خاضع و خانع مطأطئ الرّأس يستمع إلى أستاذه كتلميذ نجيب في قاعة الدرس.
قوّة الكلمات المتفجّرة الخارجة من فيهه دفعة واحدة كقذيفة تنطلق من فوهة مدفع لا تخفي تذبذبه و تلعثمه و تعثّره و أخطاءه في الشّكل و المضمون و هو غير قادر على الاسترسال في إلقاء خطاب مسترسل واضح الرّسالة و المضمون و يكتفي كلّ مرّة بكلمات يعتقدها مفاتيح يضمّنها جوهر ما يريد ابلاغه فتزيد بإبهامها للمشهد غموضا و ضبابية.
قد يبدو و أنّ كلّ ما ذكر من نقائص هي أخطاء اتّصالية فادحة من قبله و من قبل المحيطين به و هي ليست كذلك لأنّ النّتيجة المرجوّة تحقّقت و بصدد التحقّق لأنّ اللّغة و الكلمة و الحرف لم يعد لها نفس التّأثير في عصر التكنولوجيا و التّفاهة و الثّقافة المعلّبة و الصّورة المهيمنة، نعم هو عصر اللّقطات السريعة و الصّور الفاعلة المؤثّرة، عصر قد يكتب فيه مفكّر مقالا مطوّلا يضع فيه عصارة فكره فلا يقرأه إلّا العشرات في حين تنشر فتاة صورة بنصرها فيعجب بها الملايين!
مختبرات التوجيه و صنع الرّأي العام يعلمون درجة كسل و تكلّس العقل الانساني و التّونسي ليس استثناء فغالبا ما يوجّه بصورة أو بعنوان مثير أو بكلمات مبهمة فضفاضة.
المشتغلون على الصّورة ابتدؤوا عملهم منذ أن انتفض الشعب التونسي على الدكتاتورية و المهانة ليبحثوا عن صورة أخرى سهلة الاختراق يتقبّلها المتلقّي و يتبنّاها، بل و يعلّقها في بيت نومه ، صورة لدكتاتور مقبول و مطلوب من قبل جمهور فقد بوصلته في متاهة الحرّية و جعلوه يكفر بها و بكلّ القيم الآنسانية بعد هرسلة الحلم الّذي حوّلوه إلى كابوس مرعب.
صورة رجل قانون نظيف يستدعونه ليفتي فيما اختلف فيه البقية، ثمّ صورة متعفّف عن المناصب يقاد عنوة لعالم السياسة و الرئاسة ، صورة طاهر أوتي به من كوكب آخر ليطهّر كوكب الدّناسة و كان لا بدّ من تعفين الوضع إلى أقصاه و ترذيل كلّ شيء ليطرح بديلا و يقبل بحماسة!
صورة العروبي الشهم الّذي تجرّأ على المحرّمات و أعلنها عاليا بأنّ التطبيع خيانة عظمى في زمن يهرول أشباه الرجال إلى بيت الطّاعة الصّهيوني للمبايعة و استمداد الشرعية.
صورة التّقي المتديّن الزّاهد في الدنيا الّذي لم يغيّره الكرسي، بل و خيّر في البداية بيته على قصره و استمرّ في ارتياد مقهاه المعتاد و التردّد على مسجده كالعادة، و الرئيس المواطن الّذي يصطفّ لاقتناء رغيف الخبز،و الرّئيس الّذي يتالّم حينما لا يجد مواطنا ثمن بيضة يسدّ بها رمقه!
صورة الأب العطوف و الأخ اللّطيف و المنقذ حينما عصفت الأعاصير و اشتدّت الظروف.
صورة القائد الهمام ، القويّ الشجاع من يمتلك كلّ عناصر القوّة المادّية من أمن و جيش و سلاح و صواريخ افتراضية على منصّاتها جاهزة للإطلاق.
صورة عمر الفاروق و هو يبحث عن جائع في مدينته أو مظلوم، و صورة مهديّ ينتظر خروجه الملايين و صورة مفوّض من الشعب و من الربّ الكريم!
أنجزت كلّ تلك الصّور و أخذت مكانها في خانات ذاكرة مخيال جمهور عريض سهل التّوجيه في ظلّ الأمّية الضّاربة والوعي المغيّب المزيّف و الكسل الذهني المستفحل.^>
و الأخطر من كلّ ذلك أنّ صاحب الصّورة لا يمكنه أن يكون هو من صوّر أو يصوّر نفسه ، فلا بدّ من مصوّر محترف و سيناريست ملهم و مخرج و هو في النّهاية لا يمكنه إلّا أن يكون ممثّلا و تلك هي المصيبة، اذ حينما تتحقّق الأهداف المرجوّة من الفلم ويقع شدّ الجمهور بالأحداث المتلاحقة و بعض الحركيّة و التشويق قد يستلزم الأمر نهاية للفلم إذ لكلّ فلم نهاية و يعرض فلم جديد بممثّل آخر أكثر احترافية بسيناريو أكثر جذبا و أشدّ تشويقا.
ربّما هو فلم العبور لننتقل من الدكتاتورية النّاعمة الافتراضية إلى الدكتاتورية الغاشمة الواقعية.